إهداء الكتاب
تمهيد
الكتاب الأول: الخلافة والإسلام
1 - الخلافة وطبيعتها
2 - في حكم الخلافة
3 - الخلافة من الوجهة الاجتماعية
الكتاب الثاني: الحكومة والإسلام
1 - نظام الحكم في عصر النبوة
2 - الرسالة والحكم
3 - رسالة لا حكم، ودين لا دولة
صفحة غير معروفة
الكتاب الثالث: الخلافة والحكومة في التاريخ
1 - الوحدة الدينية والعرب
2 - الدولة العربية
3 - الخلافة الإسلامية
إهداء الكتاب
تمهيد
الكتاب الأول: الخلافة والإسلام
1 - الخلافة وطبيعتها
2 - في حكم الخلافة
3 - الخلافة من الوجهة الاجتماعية
صفحة غير معروفة
الكتاب الثاني: الحكومة والإسلام
1 - نظام الحكم في عصر النبوة
2 - الرسالة والحكم
3 - رسالة لا حكم، ودين لا دولة
الكتاب الثالث: الخلافة والحكومة في التاريخ
1 - الوحدة الدينية والعرب
2 - الدولة العربية
3 - الخلافة الإسلامية
نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم
نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم
صفحة غير معروفة
تأليف
محمد الخضر حسين
إهداء الكتاب
إلى خزانة حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم
تلقيت علوم الشريعة الإسلامية عن أساتيذ لهم غوص في أسرار التشريع، فعرفت أن في كل حلقة من سلسلة حياة محمد
صلى الله عليه وسلم
معجزة، فإن أساليب دعوته وحكمة شريعته لا تربطها بالأمية إلا يد فوق يد الطبيعة البشرية.
رأيت وأنا بتونس أن القيام بحق الإسلام يستدعي مجالا واسعا، وسماء صافية، فهاجرت منها والعيش رغيد، والأمة في إقبال، والإخوان في مصافاة، وأنزلت رحلي بدمشق الشام، فمدت لنا الأيام من الأمل طرفا، فإذا رحى الحرب العامة تدور، وحامل رايتها ينجد ويغور.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وأخذت البلاد العربية والتركية هيئة غير هيئتها، هبطت مصر فلقيت على ضفاف وادي النيل علما زاخرا، وأدبا جما، فلم ألبث قليلا حتى شهدت من حضرة صاحب الجلالة ملك مصر المعظم غيرة على دين الحق، وعناية برفع شأن المعاهد العلمية الإسلامية، فقلت: إن في هذه الغيرة والعناية لحماية للدين الحنيف من نزعة ترمي حوله بشرر الكيد والأذى.
تلك المزية التي أصبح بها صاحب الجلالة واسطة عقد ملوك الأمم الشرقية قد أخذت في نفسي مأخذ الإكبار والإجلال، ودعتني إلى أن أقدم إلى خزانته الملكية مؤلفا قمت فيه ببعض حقوق إسلامية وعلمية؛ وهو: «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم»، ورجائي أن يتفضل عليه بالقبول، والله يحرس ملكه المجيد، ويثبت دولته على دعائم العز والتأييد.
صفحة غير معروفة
المخلص في الطاعة
محمد الخضر حسين
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله على الهداية، وأسأله التوفيق في البداية والنهاية، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد المبعوث بأكمل دين وأحكم سياسة، وعلى آله وصحبه وكل من حرس شريعته بالحجة أو الحسام وأحسن الحراسة.
وقع في يدي كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق فأخذت أقرؤه قراءة من يتغاضى عن صغائر الهفوات، ويدرأ تزييف الأقوال بالشبهات، وكنت أمر في صحائفه الأولى على كلمات ترمز إلى غير هدى، فأقول: إن في اللغة كناية ومجازا، ومعميات وألغازا، ولعلها شغفته حبا حتى تخطى بها المقامات الأدبية إلى المباحث العلمية، وما نشبت أن جعلت المعاني الجامحة عن سواء السبيل تبرح عن خفاء، وتناديها قوانين المنطق فلا تعبأ بالنداء.
وكنت - بالرغم من كثرة بوارحها - أصبر نفسي على حسن الظن بمصنفها، وأرجو أن يكون الغرض الذي جاهد في سبيله عشر سنين حكمة بالغة، وإن خانه النظر فأخطأ مقدماتها الصادقة، وما برحت أنتقل من حقيقة وضاءة ينكرها، إلى مزية مجاهد خطير يكتمها، حتى أشرفت على خاتمته، وبرزت نتائجه، وهي أشبه بمقدماته من الماء بالماء، أو الغراب بالغراب!
فوق المؤلف سهامه في هذا الكتاب إلى أغراض شتى، والتوى به البحث من غرض إلى آخر، حتى جحد الخلافة وأنكر حقيقتها، وتخطى هذا الحد إلى الخوض في صلة الحكومة بالإسلام، وبعد أن ألقى حبالا وعصيا من التشكيك والمغالطات زعم أن النبي عليه السلام ما كان يدعو إلى دولة سياسية، وأن القضاء وغيره من وظائف الحكم ومراكز الدولة ليست من الدين في شيء، وإنما هي خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، ومس في غضون البحث أصولا لو صدق عليها ظنه لأصبحت النفوس المطمئنة بحكمة الإسلام وآدابه مزلزلة العقيدة مضطربة العنان.
كنا نسمع بعض مزاعم هذا الكتاب من طائفة لم يتفقهوا في الدين، ولم يحكموا مذاهب السياسة خبرة، فلا نقيم لها وزنا، ولا نحرك لمناقشتها قلما؛ إذ يكفي في ردها على عقبها صدروها من نفر يرون الحط في الأهواء حرية، والركض وراء كل جديد كياسة!
كنا نسمع هذه المزاعم فلا نزيد أن نعرض عمن يلغطون بها حتى يخوضوا في حديث غيرها. أما اليوم وقد سرت عدواها إلى قلم رجل ينتمي للأزهر الشريف ويتبوأ في المحاكم الشرعية مقعدا، فلا جرم أن نسوقها إلى مشهد الأنظار المستقلة، ونضعها بين يدي الحجة، وللحجة قضاء لا يستأخر، وسلطان لا يحابي ولا يستكين.
صفحة غير معروفة
لا أقصد في هذه الصحف إلى أن أعجم الكتاب جملة، وأغمز كل ما ألاقي فيه من عوج، فإن كثيرا من آرائه تحدثك عن نفسها اليقين، ثم تضع عنقها في يدك، دون أن تعتصم بسند أو تستتر بشبهة، وإنما أقصد إلى مناقشته في بعض آراء يتبرأ منها الدين الحنيف، وأخرى يتذمر عليه من أجلها التاريخ الصحيح، ومتى أميط اللثام عن وجه الصواب في هذه المباحث الدينية التاريخية، بقي الكتاب ألفاظا لا تعبر عن معنى، ومقدمات لا تتصل بنتيجة. •••
والكتاب مرتب على ثلاثة كتب، وكل كتاب يحتوي على ثلاثة أبواب، وموضوع الكتاب الأول: الخلافة والإسلام، وموضوع الكتاب الثاني: الحكومة والإسلام، وموضوع الكتاب الثالث: الخلافة والحكومة في التاريخ.
وطريقتنا في النقد أن نضع في صدر كل باب ملخص ما تناوله المؤلف من أمهات المباحث، ثم نعود إلى ما نراه مستحقا للمناقشة من دعوى أو شبهة فنحكي ألفاظه بعينها، ونتبعها بما يزيح لبسها، أو يحل لغزها، أو يجتثها من منبتها.
وتخيرنا هذا الأسلوب لتكون هذه الصحف قائمة بنفسها، ويسهل على القارئ تحقيق البحث، وفهم ما تدور عليه المناقشة ولو لم تكن بين يديه نسخة من هذا الكتاب المطروح على بساط النقد والمناظرة.
الكتاب الأول
الخلافة والإسلام
الباب الأول
الخلافة وطبيعتها
مناقشة المؤلف في جمل أوردها للدلالة على أن المسلمين يتغالون في احترام الخليفة - بحث في قولهم: «طاعة الأئمة من طاعة الله» - بحث في قولهم: «النصح للأئمة لا يتم إيمان إلا به» - بحث في قولهم: «السلطان ظل الله في الأرض» - مناقشة المؤلف في زعمه أن ولاية الخليفة عند المسلمين كولاية الله ورسوله - من أين يستمد الخليفة سلطته؟ - مناقشة المؤلف فيما استشهد به من أقوال الشعراء - الفرق بين مذهب «هبز» وحق الخليفة في الإسلام. ***
ملخص الباب
صفحة غير معروفة
تعرض المؤلف في فاتحة هذا الباب إلى معنى الخلافة وأورد ما قاله بعض علماء الإسلام في تعريفها، وأردفه بنقل كلمات أهل العلم في الحث على نصح الخليفة ولزوم طاعته، وأضاف إليها كلمة من خطبة تعزى لأبي جعفر المنصور، وصاغ خلال ذلك وعقب ذلك جملا صور بها منزلة الخليفة في نظر المسلمين، بزعم أنها منتزعة من تعريفهم للخلافة أو مما يقولونه في الندب إلى طاعة الأمراء، ولم يتمالك بعد هذا أن طالب المسلمين بأن يبينوا له مصدر تلك القوة التي أفاضوها على الخليفة، وخرج في البحث إلى دعوى أن للمسلمين في سلطة الخليفة مذهبين:
أحدهما:
أنها مستمدة من سلطان الله.
وثانيهما:
أنها مستمدة من الأمة.
وضرب المثل لهذين المذهبين بمذهبي «هبز» الألماني «ولوك» الإنكليزي.
المناقشة
افتتح صاحب الكتاب البحث بحكاية كلمات وردت في تعريف الخلافة، وهي قول الشيخ عبد السلام: «رياسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي
صلى الله عليه وسلم .» وقول البيضاوي: «الإمامة عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول عليه السلام في إقامة القوانين الشرعية وحفظ حوزة الملة.» وقول ابن خلدون: «الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها.»
ثم أخذ ينحت في تفسير هذه الكلمات جملا تشعر - بما انطوت عليه من غلو وإسهاب - أن منشئها سيتخذها سلما لدعوى إفراط المسلمين في إكبار مقام الخليفة وتوسيع سلطته!
صفحة غير معروفة
وإليك نبذة من هذه الجمل ذات الكلمات المطلقة والمعاني المكررة: قال المؤلف في ص3: «فالخليفة عندهم ينزل من أمته بمنزلة الرسول
صلى الله عليه وسلم
من المؤمنين، له عليهم الولاية العامة، والطاعة التامة، والسلطان الشامل.» ثم قال: «وعليهم أن يحبوه بالكرامة كلها؛ لأنه نائب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وليس عند المسلمين مقام أشرف من مقام رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فمن سما إلى مقامه فقد بلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق من البشر.»
شغل المؤلف مقدار صحيفتين أو أزيد بتكرار معان تعد من المعلومات الموضوعة على ظاهر اليد؛ ليلمح بتأكيد إلى أن المسلمين يقررون لمقام الخلافة سلطانا ومكانة فوق ما يستحقه رئيس حكومة عادلة، ثم هو لم يقف في بيان عبارات أولئك العلماء على حد ما تحتمله ألفاظهم كما هو شأن طلاب الحقيقة بإنصاف؛ بل أخذ يرمي الكلم على عواهنه، ويعدل عن الألفاظ المطابقة إلى غيرها من الألفاظ التي ربما قدحت في الذهن معاني غير صحيحة.
فعلماء الإسلام يقولون: «تجب طاعة الخليفة فيما يأمر به من معروف» والمؤلف يقول: له عليهم الطاعة التامة، فيحذف ما اشترطوه للطاعة من الاقتصار بها على المعروف، ويضع بدله كلمة تذهب بها إلى أن تتناول الطاعة العمياء!
وهم يقولون: «يجب أن يكون مكرما بين الناس - أي غير مهان - ليكون مطاعا.»
1
والمؤلف يقول: وعليهم أن يحبوه بالكرامة كلها! فيصرف القلم عن تعليلهم الذي يأخذ به المعنى قوة الحقائق، ويضع مكانه لفظ الشمول الذي يذهب بنفس القارئ إلى أقصى غاية.
صفحة غير معروفة
وهذا النوع من التصرف في أقوال أهل العلم مما يغمز في أمانة صاحبه، وقد يغمض عنه الطرف في المقالات الأدبية أو في مقام الوعظ، أما الباحث في العلم فإنه حقيق بأن يؤاخذ به، وبالأحرى حيث يكون بصدد بيان رأي أو حكم انتصب لمناقشته أو نقضه.
وأعجب من هذا قوله بعد: لأنه نائب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وليس عند المسلمين مقام أشرف إلخ. فإنه ساق هذه الكلمة مساق التعليل لما عزاه إلى المسلمين في حق الخلافة، ومقتضى نسج الكلام أن المسلمين يرون أن الخليفة بلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق من البشر! وهذه الكلمات إنما هي من مصوغات قلم المؤلف، وعليها طابع مبالغته الشعرية. والميزان الذي يرجع إليه المسلمون في المفاضلة بين البشر إنما هي الأعمال الصالحة المشار إليها بقوله تعالى:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ؛ فمنزلة القائد الخطير ينقذ الأمة من سطوة عدو هاجم، والعالم الحكيم يحميها من ضلالات مبتدع خليع، هي أسمى في نظر المسلمين من منزلة الخليفة إذا لم يكن له من العمل ما يساوي عملهما في عظم الأثر وشرف الغاية.
ولم يزد أولئك العلماء أن قالوا في الخليفة: إنه نائب رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وهذا لا يقتضي أن يقال: سما إلى مقام رسول الله عليه السلام، وبلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق. ولو جرينا على هذا الضرب من الاستنتاج لقلنا: قال الله تعالى:
يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ، فداود عليه السلام سما إلى مقام الألوهية، أو بلغ الغاية التي لا مجال فيها لمخلوق. وهذا الضرب من الاستنتاج باطل بالبداهة، فليكن ما صنعه المؤلف خارجا عن الأقيسة الصادقة. •••
وجاء المؤلف بعد هذا بقطع التقطها مما قيل في احترام الخليفة ومحض النصيحة له، وحيث إنه أتى بها كمقدمات بنى عليها استعظام القوة التي توضع في يد الخليفة واستنكارها، حسبما انجر إليه البحث في ص6، وجب أن نطارحه الحديث فيما يراد منها، أو في أهلية قائليها لأن يوثق بهم أو يحتج بأقوالهم.
قال المؤلف
صفحة غير معروفة
2
عازيا إلى حاشية الباجوري على الجوهرة: «عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ظاهرا وباطنا.» وعلله بقول أبي هريرة - آخذا من «العقد الفريد»: «إن طاعة الأئمة من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله.»
نتحدث مع المؤلف فيما عزاه إلى أبي هريرة، فنذكره بأن «العقد الفريد» كتاب أدب لا يليق برجل يبحث في موضوع ديني أن يستند إلى شيء مما ينقله ذلك الكتاب عن صحابي أو غيره، وإذا أباح لنفسه الاستشهاد بما بين دفتي العقد الفريد؛ فلا يحق له بعد هذا أن يعمد إلى أحاديث في صحيحي البخاري ومسلم يراها واقفة في سبيل بعض آرائه فيقول: لنا أن ننازع في صحتها. وأصل خبر أبي هريرة في الصحيفة التي رمز إليها المؤلف من العقد الفريد: «لما نزلت هذه الآية:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
أمرنا بطاعة الأئمة، وطاعتهم من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله، وقد تصرف المؤلف في الخبر بحذف كلمة «أمرنا». ولفظ أمرنا في قول الصحابي إما أن يجعل الخبر حديثا نبويا، كما هو رأي جمهور أهل العلم؛ إذ الظاهر أن الآمر هو صاحب الشريعة، وإما أن يبقى محتملا لأن يكون الآمر بعض الخلفاء والأمراء. وعلى كلا المذهبين فأبو هريرة راو إما لحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وإما لأثر عن بعض الخلفاء أو الأمراء.
وقد جاء في معنى خبر أبي هريرة حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة؛ وهو: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني.»
وليس في هذا الحديث ولا ذلك الخبر ما يدعو إلى غرابة ما دمنا نعلم أن الأمير الذي يقال: إن طاعته من طاعة الله وعصيانه من عصيان الله، هو الأمير المسلم الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكذلك تكون طاعته ظاهرا وباطنا؛ لأنه لم يكن سوى لسان يعبر عن أحكام الشريعة الثابتة بنص جلي أو استنباط صحيح. •••
قال المؤلف في ص4 عازيا إلى العقد الفريد: «فنصح الإمام ولزوم طاعته فرض واجب، وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلا به، ولا يثبت إسلام إلا عليه.» ساق المؤلف هذه الجملة، ولا داعي لمساقها - فيما يظهر - إلا أن يطلع قراء كتابه على مقالة للمسلمين تجعل تمام الإيمان وثبات الإسلام موقوفين على نصح الإمام ولزوم طاعته. وهذا في رأيه موضع غرابة وإنكار؛ فإنه أورده في نسق ما رتب عليه قوله في ص6: «كان واجبا عليهم إذ أفاضوا على الخليفة تلك القوة إلخ.»
ونص عبارة العقد الفريد في الصحيفة التي رمز إليها: وقال
صفحة غير معروفة
صلى الله عليه وسلم : «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ورسوله ولأولي الأمر منكم.» فنصح الإمام ولزوم طاعته فرض واجب، وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلا به، ولا يثبت إسلام إلا عليه.
فصاحب العقد الفريد أورد العبارة كالبيان للحديث النبوي ، وهو بيان لا غبار عليه؛ لأنه إذا كانت النصيحة للأمراء معدودة في حقائق الدين، وبالغة مبلغ ما يقرن بالنصح لله ورسوله كانت بلا ريب من قبيل ما لا يكمل إيمان إلا به، ولا يستقيم إسلام إلا عليه. ولا يبقى معنا سوى أن العقد الفريد كتاب أدب لا يحل لنا الاعتماد عليه في شيء من المباحث الشرعية، فلا بد من الرجوع إلى كتب السنة لنعلم مبلغ هذا الحديث من الصحة. وهو مروي في صحيح مسلم
3
عن تميم الداري، ولفظه: أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.» •••
قال صاحب الكتاب في ص4: «وجملة القول: أن السلطان خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وهو أيضا حمى الله في بلاده، وظله الممدود على عباده، ومن كان ظل الله في أرضه، وخليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فولايته عامة ومطلقة كولاية الله تعالى وولاية رسوله الكريم.»
أورد المؤلف هذه الجمل على طريق الحكاية لما يقول المسلمون وهو غير مؤمن بها، ثم أضاف إليها أسفل الصحيفة نبذة من خطبة ألقاها أبو جعفر المنصور بمكة، وموضع إنكاره منها كما دل عليه في ص7 قوله في مستهلها: «إنما أنا سلطان الله في أرضه.» ودل في تلك الصحيفة أيضا على عدم رضاه عن قولهم: «ظل الله الممدود».
صفحة غير معروفة
فقوله: حمى الله في بلاده. لم يعزه المؤلف إلى قائل بعينه، ومعناه قريب المأخذ بعيد عن مواقع اللبس، فإن الحمى يقال على المكان الذي يحميه الشخص ويمنع غيره من أن يدانيه، فيرجع إلى معنى الحرم والكنف، ومعنى كون السلطان حمى الله أنه الحرم الذي يأمن به كل خائف، والكنف الذي يضرع إليه كل ذي خصومة.
وقوله: وظله الممدود على عباده. ليس بمستنكر؛ إذ قد روي في معناه حديث نبوي، وهو: «السلطان ظل الله في الأرض.» والمعنى أنه يدفع الأذى عن الناس كما يدفع الظل أذى حر الشمس.
4
وقوله: فولايته عامة ومطلقة كولاية الله تعالى ورسوله الكريم. هذا من مبالغاته التي تضع للخلافة في نفوس المستضعفين من الناس صورة مكروهة، ولو كان المؤلف يمشي في بحثه على صراط سوي لتحرى فيما ينطق به عن المسلمين أقوالهم المطابقة، وهم لم يقولوا: إن ولاية الخليفة عامة ومطلقة كولاية الله؛ فإن الله يفعل ما يشاء فيمن يشاء، ولا يسأل عما يفعل، والخليفة مقيد بقانون الشريعة ومسئول عن سائر أعماله، وكذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم
له خصائص لا يحوم عليها الطير ولا يبلغها مدى البصر، منها أن تصرفاته نافذة ولا تتلقى إلا بالتسليم، وتصرفات الخليفة قد تقابل بالمناقشة والنقض والإنكار، فإن عنى بالعموم والإطلاق مجرد تناولها للرقاب والأموال والأبضاع، قلنا له: إن نزاهة البحث والأخذ فيه بفضيلة الإنصاف يقضيان عليه بطرح هذه العبارة المرهقة بالعموم والإطلاق وتشبيه المخلوق بالخالق
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون .
قال المؤلف
5
عازيا إلى طوالع الأنوار وشرحه مطالع الأنظار: «ولا غرو أن يكون له حق التصرف في رقاب الناس وأموالهم وأبضاعهم.» قطف المؤلف هذه الجملة من أصلها وأطلقها خالية من الروح التي تجعلها حكمة جلية، فإن صاحب المطالع إنما ألقاها في نسق التعليل لأخذ العدالة شرطا من شروط الإمامة فقال: «الرابعة: أن يكون عدلا؛ لأنه يتصرف في رقاب الناس وأموالهم وأبضاعهم.» وقال شارحه في المطالع: «لو لم يكن - يعني الإمام - عدلا لم يؤمن تعديه، وصرف أموال الناس في مشتهياته، وتضيع حقوق المسلمين.»
صفحة غير معروفة
فالمراد من التصرف في الأموال والرقاب والأبضاع التصرف بحق؛ وهو التصرف بنحو القضاء، أو بعمل مشروع كاستخلاص الأموال المفروضة، وحمل الناس على أمر الجندية، وولاية نكاح من لا ولي لها. •••
ثم ذهب المؤلف في نحو من صحيفة يكيل للخليفة من إطلاق اليد وسعة السلطان ما كففنا طغيان بعضه فيما سلف، وسنتولى تهذيب بعضه فيما يأتي، وقد شعر وهو منفلت العنان بأن الحقيقة تصيح به من كل جانب، وتضرب بأشعتها على رأس قلمه، فوقف بمقدار ما اعترف بأن الخليفة عند المسلمين مقيد بحدود الشرع، ثم انقلب يصف السبيل التي رسمتها الشريعة بكلام له باب باطنه فيه النقد ، وظاهره من قبله الرضاء! وإنما قلت: باطنه فيها النقد؛ لأنه سيصرح بإنكار الخلافة، وإنكار أن يكون للإسلام شأن في السياسة، دون أن تأخذه فيما أنكر أناة أو هوادة.
ثم قال في ص5: «نعم، هم يعتبرون الخليفة مقيدا بقيود الشرع، ويرون ذلك كافيا في ضبطه يوما إن أراد أن يجمح، وفي تقويم ميله إذا خيف أن يجنح.»
يرى المسلمون أن الخليفة مقيد بقانون الشريعة على الوجه الذي سنحدثك عنه في نقض الكتاب الثاني، وأن الإسلام قرر لهم من الحقوق أن تقوم حول الخليفة أمة من الذين أوتوا العلم يتقصون أثره، فيأمرونه بالمعروف إن تهاون، وينهونه عن المنكر إن طغى، فإذا ركب غارب الاستبداد وأعياهم تقويم أوده خلعوه غير مأسوف عليه.
وقد كان بعض الخلفاء يرعى هذا الحق بصدق كما أن الأمة في الصدر الأول كانت تعمل عليه بقوة، فانتظمت السياسة وأشرق محيا العدالة، وقامت قاعدة المساواة على وجهها. •••
قال المؤلف في ص6: «قد كان واجبا عليهم إذ أفاضوا على الخليفة كل تلك القوة، ورفعوه إلى ذلك المقام، وخصوه بكل هذا السلطان، أن يذكروا لنا مصدر تلك القوة التي زعموها للخليفة: أنى جاءته؟ ومن الذي حباه بها وأفاضها عليها؟!»
ألقى المؤلف هذا السؤال المشبع بالإنكار بعد أن قرر على لسان المسلمين واجبات الخليفة، وكساها صبغة غير الصبغة التي فطرها الله عليها، ولم يخرج هذا السؤال على قارئ الكتاب فجأة حتى يتلجلج لسانه في الجواب عنه دهشة، بل روح الصحف السابقة والثوب الفضفاض الذي كانت تتبرج فيه جملها يشعران بأن المؤلف سيذهب في أمر الخلافة مذهب الجاحدين، ويتبع غير سبيل المسلمين. وقد عرفت إذ ناقشناه في أقواله ومنقولاته أن الإسلام لم يجئ في أمر الخليفة ببدع من القول، ولم يملكه سلطة تبخس المسلمين شيئا من حريتهم، أو تجعله يتصرف في شئونهم حسب أهوائه، فالقوة المشروعة للخليفة لا تزيد على القوة التي يملكها رئيس دولة دستورية، وانتخابه في الواقع إنما كان لأجل مسمى؛ وهو مدة إقامته قاعدة الشورى على وجهها، وبذله الجهد في حراسة حقوق الأمة ، وعدم وقوفه في سبيل حريتها. •••
قال المؤلف في ص7: «على أن الذي يستقرئ عبارات القوم المتصلة بهذا الموضوع يستطيع أن يأخذ منها بطريق الاستنتاج أن للمسلمين في ذلك مهذبين: المذهب الأول: أن الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى، وقوته من قوته.»
الاستمداد من سلطان الله وقوته يجيء لمعنيين؛ أحدهما: الاستمداد بطريق الاستقامة والعدل، وهو معنى صحيح وحقيقة واقعة، ومن شواهده قوله تعالى:
ولينصرن الله من ينصره ، وقوله تعالى:
صفحة غير معروفة
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ، فالخليفة قد يستمد من سلطان الله وقوته متى كان طيب السريرة، مستقيم السيرة، ينفق العزيز من أوقاته في إصلاح شئون الأمة، ولا يألو جهدا في الدفاع عن حقوق البلاد بحكمة وثبات. ثانيهما: الاستمداد من قوة الله وسلطانه بطريق غيبي ليس له من سبب سوى كونه خليفة. وهذا ما يقصد المؤلف إلى جعله أحد مذهبين في الإسلام، وقد جاءت هذه الدعوى مكبة على وجهها، ولم يسعفها المؤلف بما يبل ظمأها.
قال المؤلف في ص7: «ذلك رأي تجد روحه سارية بين عامة العلماء وعامة المسلمين أيضا، وكل كلماتهم عن الخلافة ومباحثهم فيها تنحو ذلك النحو، وتشير إلى هذه العقيدة.»
شد ما عنينا بأمر الخلافة وأنفقنا في مطالعة الكتب الممتعة بالبحث عنها نظرا طويلا ووقتا واسعا، فلم نعثر مع هذا على كلمة تنبئ - ولو بطريق التلويح - أن سلطان الخليفة مستمد من سلطان الله، وقصارى ما يستنتج من كلماتهم عنها ومباحثهم فيها أن الله أوجب على الناس إقامة إمام، وأن ولايته تنعقد إما بمبايعة أهل الحل والعقد، وإما بعهد من الخليفة قبله، وأنه إذا سعى في السياسة فسادا كان للأمة انتزاع زمام الأمر من يده، ووضعه في يد من هو أشد حزما، وأقوم سبيلا.
والذي يؤخذ بطريق الاستنتاج أن المؤلف عرف أن للغربيين في سلطة الملك مذهبين، فابتغى أن يكون للمسلمين مثلهما، ولما لم يجد في كلام أهل العلم عن الخلافة ما يوافق أو يقارب القول بأن سلطان الخليفة مستمد من سلطان الله تلمسه في المدائح من الشعر أو النثر، وادعى أنه ظفر ببغيته، وساقها كالشواهد على تقرير مذهب ليس له بين الراسخين في العلم من مبتدع ولا تبيع. ولا أظن المؤلف يجد في مباحث الخلافة ما يشتم منه رائحة هذا المذهب، ويتركه إلى الاستشهاد بأقوال الشعراء أو كلمات صدرت على وجه المبالغة في الثناء.
ولو رمى هذا المذهب على كتف الفرقة الغالية من الشيعة لكان له من بعض مقالاتهم متكأ، ولكن حديث هذه الطائفة لا مساس له بالخلافة التي طرح عليها بحثه وسلقها بكلماته الحداد.
قال المؤلف في ص7: «وقد رأيت فيما نقلنا لك آنفا أنهم جعلوا الخليفة ظل الله تعالى، وأن أبا جعفر المنصور زعم أنه سلطان الله في أرضه.»
إذا جعلوا الخليفة ظل الله تعالى؛ فللحديث المروي: «السلطان ظل الله.» وسبق شرحه بأنه خرج مخرج التشبيه؛ حيث إنه يدفع الأذى عن الناس كما يدفع الظل أذى حر الشمس عمن يأوي إليه، وإضافته إلى الله؛ لأنه أمر بإقامته وإطاعته. وأين هذا من معنى استمداد السلطان من سلطان الله؟!
وقول أبي جعفر المنصور: إنه «سلطان الله في أرضه.» لا صلة له بالمعنى الذي يتحدث عنه المؤلف، وتأويل معناه - كما عرفت - أن الله أمر بإقامة السلطان وطاعته، ومن هذه الجهة يصح إضافته إلى الله، وبالأحرى حيث يكون قائما على حراسة شرعه، ويسير في سياسة الناس على صراط مستقيم، فإن لم يكن المنصور على هذه السيرة؛ فغاية ما يقال عنه: إنه سمى نفسه سلطان الله وهو غير صادق في هذه التسمية.
قال المؤلف في ص7: «وكذلك شاع هذا الرأي وتحدث به العلماء والشعراء منذ القرون الأولى، فتراهم يذهبون دائما إلى أن الله جل شأنه هو الذي يختار الخليفة، ويسوق إليه الخلافة.»
يعرف العلماء أن بين الخالق جل شأنه وأمر الخلافة صلة القضاء والقدر، وذلك معنى لا يختص بالخلافة؛ بل يتحقق في كل ما يحدث في الكون من محبوب ومكروه. وهناك معنى آخر زائد على القضاء والقدر، وهو الإرادة بمعنى المحبة والرضا. وهذا أيضا يتعلق بكل ما فيه خير وصلاح، ولا يتعلق بأمر الخلافة إلا بتفصيل ، وهو أن يقال: متى كان الخليفة مستقيما عادلا كانت ولايته خيرا وصلاحا، وصح أن يقال: وقعت بإرادة الله؛ أي محبته ورضاه، وإن كان جائرا فاسقا عن أمر ربه كانت ولايته شرا وفسادا، واستحقت أن يقال عليها: إنها لم تكن محبوبة لله ولا مختارة عنده.
صفحة غير معروفة
وممن نبه على حقيقة هذه الإرادة واختصاصها بما هو خير ومأمور به: أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته،
6
وشيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة الأمر والإرادة،
7
فدعوى أن العلماء يذهبون دائما إلى أن الله هو الذي يختار الخليفة ويسوق إليه الخلافة لا نجد في أقوال العلماء ما يحوم عليها، وما هي إلا كلمة سقطت من قلم المؤلف قبل أن تأخذ حظها من البحث وإمعان الفكر.
قال المؤلف في ص7: على نحو ما ترى في قوله:
جاء الخلافة أو كانت له قدرا
كما أتى ربه موسى على قدر
وقول الآخر:
ولقد أراد الله إذ ولاكها
صفحة غير معروفة
من أمة إصلاحها ورشادها
وقال الفرزدق:
هشام خيار الله للناس والذي
به ينجلي عن كل أرض ظلامها
وأنت لهذا الناس بعد نبيهم
سماء يرجى للمحول غمامها
البيت الأول من قصيدة لجرير يهنئ بها عمر بن عبد العزيز بالخلافة، ولو كان المؤلف يقدر الخلفاء المستقيمين حق قدرهم لأتينا في الاستشهاد على صحة معنى هذا البيت بأن جريرا أنشده بين يدي عمر بن عبد العزيز، بعد أن قال له: «اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقا.» وأقره عليه.
أما حيث يقول في ص36: «إن الخلافة نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد!» فنخشى أن يعد إقرار عمر بن عبد العزيز لجرير على هذا البيت شرارة من تلك النكبة، أو قطرة من ذلك الينبوع، فلا مندوحة حينئذ عن أن ندخل إلى نقض كلامه من باب تحرير معنى البيت وشرحه على مقتضى الاستعمال العربي.
قوله:
جاء الخلافة أو كانت له قدرا
صفحة غير معروفة
وقعت «أو» هنا موقع الواو، وفي رواية:
إذ كانت له قدرا
8
وهذا الشطر وارد على ما يفيده قوله تعالى:
ثم جئت على قدر يا موسى ، ومعنى الآية : جئت على قدر قدرته لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر.
9
وعلى مقتضى هذا التفسير يكون معنى:
جاء الخلافة أو كانت له قدرا
أنه جاء الخلافة على القدر الذي قدره الله لها، ويراد بهذا أنه نالها بغير تعب ولا معاناة، قال الدماميني في شرح المغني:
10 «كانت له قدرا؛ كانت مقدرة لا سعي له فيها.» فليس في البيت الذي أنشد بين يدي عمر بن عبد العزيز ما يدل على أن الله اختاره خليفة وساق إليه الخلافة إلا على معنى القدر الذي لا يغادر حادثا من حوادث الكون إلا أتى عليه.
صفحة غير معروفة
وأما البيت الثاني وبيت الفرزدق فلا حرج علينا أن نطوي بساط المناقشة دونهما؛ إذ المسألة تقرير مذهب في أحد المباحث العلمية أو الدينية، وحق هذا المقام ألا يوثق فيه بأقوال الشعراء بعد أن عرفنا في فن البديع أن كلامهم ينقسم إلى مبالغة وإغراق وغلو، ومع هذا الوجه الكافي في طرحهما من حساب تلك الشبه الواهية نقول: إن معنى البيتين لم يكن ناشئا عن عقيدة خاصة في الخليفة والخلافة، وإنما هو مبني على العقيدة العامة من أن ما كان خيرا وصلاحا تتعلق به الإرادة على وجه الرضا والمحبة. وهذا ما يدعيه الشاعران في ولاية ممدوحيهما، وقد يقولان ذلك وهما يعتقدان أن مدحهما غير مطابق للواقع، وأين هذا من تلك الدعوى الواسعة وهي الاعتقاد بأن الله هو الذي يختار الخليفة؟! ولو تعلم المؤلف تأويل الأحاديث وتلا قوله تعالى:
وجعلكم ملوكا ، وقوله:
تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ، وقوله:
رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث
لم يلتبس عليه قول الشاعر: «إذ ولاكها.» أو يجره إلى شبهة أقرب إلى العدم من سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. •••
قال المؤلف في ص8: «ولقد كان شيوع هذا الرأي وجريانه على الألسنة مما سهل على الشعراء أن يصلوا في مبالغاتهم إلى وضع الخلفاء في مواضع العزة القدسية أو قريبا منها، حتى قال قائلهم:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
وقال طريح يمدح الوليد بن يزيد: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
لو قلت للسيل دع طريقك والمو
صفحة غير معروفة
ج عليه كالهضب يعتلج
لساخ وارتد أو لكان له
في سائر الأرض عنك منعرج
قبض المؤلف قبضة من أثر جرجي زيدان ونبذها في كتاب الإسلام وأصول الحكم. اقرأ كتاب تاريخ التمدن الإسلامي
11
تجده تعرض إلى ما حدث من الغلو في احترام الخلفاء أيام الدولة العباسية، ثم قال: «فلا غرو إذا سموا الخليفة في أيام المتوكل ظل الله الممدود بينه وبين خلقه»، أو قالوا قول ابن هانئ للمعز الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
فهذا البيت ينسب إلى ابن هانئ،
12
صفحة غير معروفة
كما ترى، ونسبه المعري في رسالة الغفران
13
إلى شاعر يدعى بابن القاضي، فقال: «حضر شاعر يعرف بابن القاضي بين يدي ابن أبي عامر، صاحب الأندلس، فأنشده قصيدة أولها:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
ويقول فيها أشياء، فأنكر عليه ابن أبي عامر وأمر بجلده ونفيه.» فعلى رواية المعري خرج البيت عن أن يكون خطابا لخليفة كما يدعي المؤلف، وعلى كلا الروايتين لم يكن هذا الغلو في الوصف من أثر الاعتقاد بأن الخليفة أو الأمير يستمد سلطانه من سلطان الله، وإنما هو انحلال عقدة الإيمان بالله ينضم إليه الإغراق في التملق وحب العاجلة، فينحدر الشاعر في مديحه طلق العنان، خالعا على ممدوحه من ألقاب العظمة والقوة ما يتخطى به إلى مقام الألوهية. وقد وقع مثل هذا من عضد الدولة في قوله يصف نفسه:
مبرزات الكأس من مطلعها
ساقيات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها
ملك الأملاك غلاب القدر
صفحة غير معروفة