تركنا في ذهن القارئ صورة لما كان عليه الجيش الفرنساوي في الضفة الغربية، والآن نعود إلى صاحبنا «الجبرتي» في وصف ما حاق بالقاهرة يوم الواقعة ومساؤه فنقول: بلغ ما كتبه الجبرتي عن واقعة إمبابة بضعة سطور لا قيمة لها، إلا فيما ذكره من أسماء بعض البكوات الذين أبلوا بلاء حسنا، فذكر منهم أيوب بك الدفترادار، وكان من كبار المماليك، وعبد الله كاشف الجرف وعدة كثيرة من كشاف محمد بك الألفي، وغرق إبراهيم بك الصغير، وهو صهر إبراهيم بك الكبير، ثم قال: «ولما عاين وسمع عسكر البر الشرقي القتال ضج العامة والغوغاء من الرعية ، وأخلاط الناس بالصياح، ورفع الأصوات بقولهم: «يا رب ويا لطيف» «ويا رجال الله»، ونحو ذلك وكأنهم يقاتلون ويحاربون بصياحهم وجلبتهم، فكان العقلاء من الناس يصرخون عليهم ويأمرونهم بترك ذلك ، ويقولون لهم إن الرسول والصحابة والمجاهدين إنما كانوا يقاتلون بالسيف والحراب، وضرب الرقاب، لا برفع الأصوات، والصراخ والنباح، فلا يسمعون ولا يرجعون عما هم فيه، ومن يقرأ ومن يسمع.»
وليس بصحيح ما كتبه «الجبرتي» من أنه لما انهزم المماليك في البر الغربي حول الفرنسيس المدافع والبنادق على البر الشرقي؛ إذ لم يرد ذكر ذلك في المصادر الموثوق بها، كما أنه لا ينطبق على العقل أن يشتغل الفرنساويون بإطلاق قنابلهم إلى الجهة الشرقية، وهي لا تصل إلى تلك الجهة ولا تأتي بفائدة، كما أنهم لم يكونوا يخشون من عبور سكان القاهرة إليهم، وقد يمكن أن بعض الطلقات التي كانت موجهة لفئات من المماليك سقطت في النيل، فخيل لهم أن الضرب كان بذلك القصد.
وفر إبراهيم بك وأبو بكر باشا، وعولا على الفرار إلى سوريا، وهذه كانت نية إبراهيم بك من أول الأمر، كما يظهر من أخذه أهبته، وجمعه مقتنياته ... قال الشيخ الجبرتي، وهو في هذا الوصف الحجة الثقة ...
فلما استقر إبراهيم بك بالعادلية «الوايلية الآن» أرسل يأخذ حريمه، وكذلك من كان معه من الأمراء ... واستمر معظم الناس طول الليل خارجين من مصر، البعض بحريمه، والبعض ينجو بنفسه ولا يسأل أحد عن أحد، بل كل واحد مشغول بنفسه عن أبيه وابنه، والناس يضجون بالعويل والنحيب، ويبتهلون إلى الله من شر ذلك اليوم العصيب، والنساء يصرخن بأعلا أصواتهن من البيوت، فخرج تلك الليلة معظم أهل مصر، البعض لبلاد الصعيد، والبعض لجهة الشرق، وهم الأكثر، وأقام بمصر كل مخاطر بنفسه، ومن لا يقدر على الحركة ممتثلا للقضاء، متوقعا للمكروه، وذلك لعدم مقدرته أو لقلة ذات يده، وما ينفقه على حمل عياله وأطفاله.
وأي مصري، بل أي إنسان ذي عاطفة، يقف على ذكرى هذه الحال، ويتصور ما كان يجيش في صدور القوم من الآلام والأحزان، في تلك الليلة السوداء، التي زادت القوم مصائب على مصائبهم السابقة واللاحقة، ثم لا ينقطع نياط قلبه، أو تنحدر الدموع من عينه؟؟
وقال الشيخ الجبرتي: «والذي أزعج قلوب الناس بالأكثر أن في عشاء تلك الليلة شاع في الناس أن الإفرنج عدوا إلى بولاق وأحرقوها، وكذلك الجيزة، وأن أولهم وصل إلى باب الحديد يحرقون ويقتلون ويفجرون بالنساء!! وكان السبب في هذه الإشاعة أن بعض القلينجية «البحارة» من عسكر مراد بك لما تحقق الكسرة أضرم النار اغعليون الذي هو فيه (وهذا لا شك بأمر مراد بك وإن لم يعلم به الشيخ الجبرتي) وكذلك مراد بك، لما وصل من الجيزة أمر بانجرار الغليون الكبير من قبالة قصره ليصحبه معه إلى جهة قبلي، فمشوا به قليلا ووقف لقلة الماء في الطين، وكان به عدة وافرة من آلات حربية، والجبخانة، فأمر بحرقه أيضا فصعد اللهيب من جهة الجيزة وبولاق، فظن الناس، بل أيقنوا أنهم أحرقوا البلدين، فماجوا واضطربوا زيادة عما هم فيه من الجزع والفزع والروع.»
ولو كان إبراهيم بك، أو كان أبو بكر باشا، ذا حكمة وإخلاص، وشفقة على الرعايا، لشكل حكومة وقتية من الكبراء والأمراء، وهدأ خواطر الناس، وحافظ على السكينة والسلام حتى الصباح، وكان له أن يفر مع ذلك بمماليكه ونسائه وأمواله، إذا شاء، ولكن هكذا كان المماليك لا يعرفون من الواجبات إلا المحافظة على أرواحهم، واعتبارهم بقية الناس حشرات لا قيمة لهم.
وقال الشيخ الجبرتي: «وأخذ الناس يتلاحقون ويتسابقون، وخرجوا من كل صوب ينسلون ... وخرج أكثرهم ماشيا، أو حاملا متاعه على رأسه، وزوجته حاملة طفلها، ومن قدر على مركوب أركب زوجته وابنته، ومشي هو على أقدامه، وخرج غالب النساء ماشيات حاسرات، وأطفالهن على أكتفاهن يبكين في ظلمة الليل» ... والعياذ بالله.
ثم أتبع هذه الصورة المؤلمة بما هو أشد منها إيلاما، قال عفا الله عنه:
واستمر الناس على ذلك الحال طول ليلة الأحد وصبحها، وأخذ كل إنسان ما قدر على حمله من مال ومتاع، فلما خرجوا من أبواب البلد، وتوسطوا الفلاة تلقتهم العريان والفلاحون، فأخذوا متاعهم ولباسهم وأحمالهم، بحيث لم يتركوا لمن صادفوه ما يستر به عورته، أو يسد جوعته، وربما قتلوا من قدروا عليه، أو دافع عن نفسه ومتاعه، وسلبوا ثياب النساء وفضحوهن وفتكوا بهن، وفيهن المخدرات ونسوة الأعيان، وكانت ليلة وصباحها في غاية الشناعة، جرى فيها ما لم يتفق مثله في مصر، ولا سمعنا بما شابه بعضه في تواريخ المتقدمين، فما راء كمن سمعا.
صفحة غير معروفة