ولكن الحكومة الإنجليزية لم تحفل كثيرا بمساعي بروس وخسرت التجارة المصرية والإنجليزية سواء بسواء.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد من معاكسة التجارة بين مصر والهند وأوروبا بل أن الباب العالي؛ أي: تركيا، ارتأت أن سفر البضاعة الهندية من طريق السويس مضر بتجارة الآستانة عن طريق حلب، فأرسل الباب العالي فرمانا إلى باشا القاهرة يأمره بإيقاف كل تجارة تأتي عن طريق السويس، ولم تكن هذه هي المرة الأولى، ولا الأخيرة التي عاكس فيها الباب العالي مرور التجارة الهندية من طريق مصر.
ولم تنجح محاولات «وران هاستنج» حاكم الهند، واتفاقية مع محمد بك أبو الذهب في سنة 1775، ما دامت تركيا قد رأت، في ذلك الوقت، أن مرور التجارة الهندية من طريق مصر مضر بصوالحها، وهكذا خسرت مصر واشتدت بها الفاقة والضنك.
المماليك والمال
لم يكن شره المماليك في جمعهم للمال قاصرا على حاجتهم إليه في البذخ والترف والإنفاق على منازلهم وقصورهم وشهواتهم؛ إذ لو كان الأمر كذلك لما اشتدت وطأتهم على البلاد واستنزفوا ثروتها، وامتصوا دماءها إلى النقطة الأخيرة، بل لقد كانت حاجتهم إلى المال أشد وأقوى من قضاء أوطارهم الشخصية، فقد قضى نظامهم بأن لا يقوم لواحد منهم شأن، إلا بالإكثار من المال، فأولا لا يكون لمملوك بعد عنقه عزوة، إلا إذا أكثر من شراء المماليك خاصة له ليكون له منهم سند وجاه ، والمماليك الذين يكونون من أتباعه، لا يداومون على التعلق بأهدابه، إلا إذا أغدق عليهم المال، ومدهم بجمع ما يحتاجون إليه من فاخر اللباس، وجميل الهندام، والأسلحة الغالية الأثمان، ثم إذا تطلعت نفس الواحد منهم إلى الإمارة، اضطر إلى بناء الدور الواسعة لاستقبال الزوار، ومد رواق نفوذه على الأقران، وكانت الدسائس والمنازعات بين البكوات وبعضهم، قاضية عليهم بالإكثار من المال في حوزتهم، ليكون آلة قوية في تصيد الأحزاب، وكانوا لا يرعون عهدا، ولا يعرفون الوفاء إلا نادرا، فبينما نرى محمد بك أبو الذهب مملوكا وتابعا ثم قائدا لجيش علي بك الكبير في الشام، نجده قد عاد بهذا الجيش للقضاء على مولاه، وبينما ترى إسماعيل بك مرسلا من قبل علي بك الكبير على رأس ثلاثة آلاف مقاتل لمقاومة خائن عهده أبو الذهب، نجد هذا قد انضم إلى الخصم، وعاد معه لقتال من أرسله لقتاله، وقس على هذا مئات من الأمثلة يجدها القارئ - إن أحب - منثورة على صفحات الجبرتي، وإنما كان الوفاء للمال لحاجتهم إليه في قضاء أوطارهم، وإدراك مطامعهم.
وقد ذكر الثقاة أن علي بك الكبير حين خذله رجاله وأنصاره، التجأ إلى صديقه الشيخ ظاهر عمر أو «العمر»
9
في عكا وكان مقدار ما أخذ معه من الأموال ثمانمائة ألف محبوب ذهبا «أي: نحو أربعة وعشرين ألف جنيه تقريبا»، يحملها على 25 جملا، وقالوا أيضا إنه نقل معه من المصاغ والحلي ما يساوي أربعة أضعاف ذلك.
وقد قابل «فولني» في سياحته بالشام، جيوش علي بك الكبير وهي ذاهبة لفتح سوريا، فقال إن الجيش المشار إليه كان مؤلفا من نحو 40000 مقاتل، ولكن لم يكن فيه من المماليك الخيالة غير خمسة آلاف، ونحو ألف وخمسمائة من المشاة وهم من المغاربة والباقي خدم وأتباع، وبعد وصف هذا الجيش بالفوضى والاضطراب، والسلب والنهب، أخذ يصف ملابس المماليك وصفا بديعا، فقال: إن ملابسهم لم تكن تصلح لامتطاء صهوات الجياد، وإنها تتكون من أربعة أو خمسة أردية وطيلسانات تتدلى إلى أرجلهم، وكان قميص الفارس منهم من القطن الناعم الأبيض، والثوب المتدلي فوق القميص من القماش الهندي الخفيف، وفوق ذلك القفطان من حرير مزركش تمتد أكمامه حتى أطراف الأصابع، ثم «الكرك» بأكمام قصيرة، ويطوف حول الرقبة فراء من السمور، ولكل واحد منهم طيلسان يلبسه في الحفلات يلف به جسمه جميعه!!!! وهذا يحتاج إلى المال الوفير، ومصادر مصر كما سبق لنا القول ضئيلة، وزادتها هاتيك الحروب والمنازعات، وإهمال حال البلاد، فقرا على فقر، فلا غرابة أن تصل الأمة إلى حال لا تستطيع معها الحياة، ولو طال أمر المماليك على هذا الحال، ربع قرن آخر من الزمان، لما بقي في مصر من يحرث الأرض أو يرعى الماشية.
محاولات الباب العالي القضاء على المماليك
صفحة غير معروفة