198

نابوليون بونابارت في مصر

تصانيف

ومثل هذه البيانات لا بد أن يكون قد سمعها المعلم نقولا من المحيطين بالمشير العثماني من السوريين التراجمة، ومثل هذا لا يتيسر طبعا للشيخ الجبرتي.

ولا شك في أن هذه المساعي النابوليونية، لم تلق من الأتراك آذانا صاغية؛ لأن نفوذ إنكلترا كان بالغا حده في الآستانة بواسطة الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا، الذي كانت صلاته مع السر سدني سميث على غاية الإحكام والوفاق، وكان مع ضيا باشا عدد كبير من الضباط الإنكليز، كما يظهر ذلك جليا من أخبار متقطعة، وجمل متفرقة، يراها القارئ في تاريخ هذه الفترة من كتاب الأمير حيدر الشهابي، وكان السر سدني سميث تعرف بالأمير بشير الشهابي في بيروت وسعى للتوفيق والصلح بينه وبين أحمد بشا الجزار، فلم يحفل به ذلك الطاغية، فأراد الأميرال الإنكليزي الاستعانة بنفوذ الصدر الأعظم فلم يحفل به الجزار أيضا.

وليس هذا مجال البحث في تلك الآراء النابوليونية فيما يختص بعلاقات تركيا مع فرنسا السياسية، ولا سيما فيما له علاقة بمصر وبقاء السيادة العثمانية مع الاحتلال الفرنسي فإن أحوال الزمان قد تغيرت، ومراكز الدول قد تبدلت، إلا أن ذلك لا يمنع أن نقول إن ما قرره نابوليون من عداوة الروسيا لتركيا - تلك العداوة الدائمة الأبدية التي قضت بها صوالح الدولتين وتجاورهما، وتعارض أغراضهما - لا يختلف فيه اثنان، ولكن مع هذا وقفت بينهما السياسة الإنجليزية في ذلك الزمن كما وفقت بين فرنسا وتركيا ونفسها ضد الروسيا في حرب القريم، وكما وفقت بين فرنسا وروسيا ونفسها أيضا ضد ألمانيا وتركيا في الحرب الأخيرة الكبرى! فهل معنى هذا أن السياسة الإنكليزية أرقى وأدق وأمهر من جميع سياسات الدول الأخرى؟ وهل أوتي الإنكليز من الحكمة والدهاء وبعد النظر ما لم يؤته غيرهم؟ الحقيقة في رأينا القاصر أن الفضل في نجاح السياسة الإنكليزية في جميع الأدوار، راجع إلى تماسك أجزاء الأمة البريطانية، وتوحيد أفكار القائمين فيها بإدارة الأمور وتدبير مهام الملك، وإلى الكثير من الحظ الذي لا يزال طالعه ملازما لهذه الدولة البريطانية. (8) الاستعداد للسفر

في اليوم الذي كتب فيه نابوليون بونابرت ذلك الخطاب إلى صاحب الدولة الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا كتب خطابا بعث به إلى أعضاء الديوان من المشايخ والأعيان، لم يذكر نصه الجبرتي، ولا المعلم نقولا سوى ما قاله الأول: «وفي ثالث عشر أشيع أن كبير الفرنسيس سافر إلى جهة بحري، ولم يعلم أحد أي جهة يريد، وسأل أحدهم بعض أكابرهم فأخبر أن ساري عسكر المنوفية «الجنرال لأنوس» دعاه إلى ضيافته بمنوف، وراج ذلك على الناس وظنوا صحته.»

وإلى القارئ نص خطاب نابوليون معربا عن المصادر الفرنسية:

إلى أعضاء الديوان الموقرين

غدا أسافر إلى منوف حيث أنوي التنقل في جهات الوجه البحري لأقف بنفسي على المظالم التي يمكن أن يكون قد ارتكبها الحكام، وأتفقد الأحوال وأتعرف بأهالي البلاد، ولذلك أطلب منكم أن توطدوا دعائم الثقة عند الخاصة والعامة، وأكدوا للأمة المصرية، أنني أحب المسلمين، وأسعى في خيرهم وسعادتهم، وأفهموا الناس أن لدي من الوسائل ما أنفع به الأصدقاء، وأنكل بواسطته بالأعداء، وأحب أن تبعثوا لي دائما بأخباركم، وتوقفوني على حقائق الأمور ومقتضيات الأحوال. ا.ه.

الإمضاء «بونابرت»

وظاهر أن نابوليون إنما قصد بهذا الخطاب التعمية والإبهام لكيلا يذيع سر سفره من القطر المصري.

وروى بعض المؤرخين أنه قد كان في نية نابوليون قضاء أسبوع آخر في القاهرة لكثرة ما لديه من المهام التي تقضي وضع خطط ونظامات، ولأنه كان يود أن يأخذ معه صديقه الجنرال «ديزيه» فاتح الصعيد ليكون من أكبر أنصاره وأعوانه فيما يطمع إليه من الأغراض في فرنسا، ولكن «ديزيه» كان في أقاصي الصعيد وتلزم لحضوره مدة طويلة، وما منع نابوليون من انتظاره إلا ما ورد إليه من الأخبار التي بعث بها الأميرال غانتوم من الإسكندرية يخبره فيها بابتعاد السفن الإنكليزية عن المياه المصرية، أنه إن لم تسافر السفينتان اللتان ستقلان نابوليون وحاشيته 24 أغسطس، فلا يبعد أن تعود البواخر الإنكليزية، ويكون السفر إلى فرنسا مهددا بالخطر إن لم يكن مستحيلا.

صفحة غير معروفة