قال الشيخ الجبرتي في هذا الصدد: «إن الغرض من ذلك التحيل على أخذ الأموال إذ طلبوا من الناس إثبات ملكيتهم، فإذا أحضروا حججهم وأثبتوا وجه تملكهم لها، إما بالبيع أو بالانتقال لهم بالإرث، لا يكتفى بذلك يأمر بالكشف عليها في السجلات، ويدفع على ذلك دراهم بقدر عينوه، فإن وجدوا تمسكه مقيدا بالسجل طلب منه بعد ذلك الثبوت، ويدفع على ذلك الإشهاد وثبوته قدرا آخر، ثم ينظر بعد ذلك في قيمة العقار ويدفع على كل مائة اثنين فإن لم تكن له حجة، أو كانت ولم تكن مقيدة بالسجل، أو مقيدة ولم يثبت ذلك التقييد، فإنها تضبط لديوان الجمهور وتصير من حقوقهم.»
ووضع له بوسيلج مشروعا آخر للضرائب يقضي بتحصيل أموال عن المواريث والتركات، وفي هذا يقول الجبرتي، وهو أدرى بشعور قومه: «ومن جملة الشروط مقررات على المواريث والموتى ومقاديرها متنوعة في القلة والكثرة كقولهم: إذا مات الميت يشاورون عليه ويدفعون معلوما لذلك ويفتحون تركته بعد أربع وعشرين ساعة، فإذا بقيت أكثر من ذلك ضبطت للديوان أيضا ولا حق فيها للورثة، وإن فتحت على الرسم بإذن الديوان يدفع على ذلك الإذن مقررا وكذلك على ثبوت الورثة، ثم عليهم بعد قبض ما يخصهم مقرر، وكذلك من يدعي دينا على الميت يثبته بديوان الحشريات ويدفع على إثبات مقررا ويأخذ له ورقة يستلم بها دينه فإذا استلمه دفع مقررا أيضا! ومثل ذلك في الرزق جمع «رزقة» والأطيان بشروط وأنواع وكيفية أخرى غير ذلك والهبات والمبايعات والدعاوى والمنازعات والمشاجرات والإشهادات الجزئيات والكليات، والمسافر كذلك لا يسافر إلا بورقة ويدفع عليها قدرا، وكذلك المولود إذا ولد ويقال له إثبات الحياة، وكذلك المؤاجرات وقبض أجر الأملاك وغير ذلك.» ا.ه.
خلص المصريون من ظلم فوضى، فوقعوا في ظلم منظم! ولكي يعطيه صفة النظام، ويلبسه ثوب العدل، أصدر نابوليون أمره بعقد مجلس عام مؤلف من كبار الأمة وأعيانها من جميع أطراف القطر المصري، للموافقة والتصديق على هذا المشروع المالي «كتصديق الجمعية العمومية على الضرائب» فحضر من الإسكندرية ورشيد ودمياط وبقية بنادر القطر المصري بعض علمائها وأعيانها، واجتمع هذا الجمع في بيت قائد أغا بالأزبكية، قال الجبرتي: «فتوجه المشايخ المصرية والذين حضروا من الثغور والبلاد وكذلك أعيان التجار ونصارى القبط والشوام ومديرو الديوان من الفرنسيس وغيرهم جمعا موفورا.»
ثم افتتحت الجلسة بخطاب مطول عن مصر وتاريخها وكونها بلادا خصبة أضر بها الظلم وسوء الإدارة، وأن الفرنساويين بعثهم الله لينقذوها من الخراب والدمار، وأنهم يريدون إصلاحها وتنظيم أمورها، وأنهم استدعوا كبار المصريين في هذه الجمعية للاستفادة من خبرتهم ... إلى غير ذلك، وبعد أن أتم المترجم قراءة هذا الخطاب الذي يظهر من لهجته أنه من إنشاء نابوليون نفسه، طلب من الحاضرين انتخاب رئيس لهم.
وكان نابوليون قد حنق على الشيخ الشرقاوي؛ لأنه أبى أن يضع على كتفه طيلسان الجمهورية الفرنساوية ذا الثلاثة ألوان، وزجر نابوليون وخرج مغضبا من عنده، وعبارة الشيخ الجبرتي في هذه النقطة ظريفة قال: «ثم قال الترجمان نريد منكم يا مشايخ أن تختاروا شخصا منكم يكون رئيسا عليكم، فقال بعض الحاضرين: الشيخ الشرقاوي: فقال «نو نو»: وإنما يكون ذلك بالقرعة بأوراق فطلع الأكثر على الشيخ الشرقاوي، فقال حينئذ: يكون الشيخ الشرقاوي هو الرئيس.» وانقضى الاجتماع الأول وكان ذلك يوم السبت 25 ربيع الثاني، وفي يوم الاثنين اجتمع المجلس وكلف المعلم ملطي القبطي الذي شارك «بوسيلج» في وضع مشروع الضرائب ، بتلاوته ولم يقرروا في ذلك اليوم شيئا، وفي يوم الخميس اجتمعوا ثانية وأظهر المشايخ معارضة شديدة في تسجيل حجج الممتلكات، وقالوا: الأولى أن تقرض على العقارات ضرائب ليسهل تحصيلها ويكون ترتيبها بنسبة قيم الممتلكات، كعوائد الأملاك في الزمن الحاضر، ثم اجتمعوا مرة ثالثة وقرر المشايخ كيفية قسمة الورثة في الشريعة الإسلامية، فلم يرض بها الفرنساويون، وكانوا يريدون أن يورثوا الابن كالبنت بدعوى أن الولد أقدر على الكسب من البنت! فاحتدم الجدال بين الطرفين، ولكن يظهر من الأخبار القليلة التي وصلت إلينا عن هذا الاجتماع أن الأقباط والسوريين «ذكر منهم الجبرتي الخواجه ميخائيل كحيل من أعضاء هذه الجمعية» قالوا: إننا أعتدنا أن نقسم مواريثنا على شريعة الإسلام وقر القرار على أن يضع المشايخ بيانا بكيفية المواريث في الشريعة المحمدية، وكان آخر اجتماع لهذا المجلس الغريب يوم السبت 10 جمادى الأول إذ تقررت فيه عوائد الأملاك والعقار، فجعلوها ثلاث درجات يدفع الأعلى ثمانية ريالات فرنسية، والأوسط ستة والأولى ثلاثة، وما كانت أجرته أقل من ريال في الشهر فلا يدفع عنه شيء، قال الجبرتي: «وأما الوكائل والحمامات والمعاصر والسيارج والحوانيت فمنها ما جعلوا عليه ثلاثين وأربعين بحسب الخسة والرواج والاتساع، وكتبوا بذلك مناشير على عادتهم والصقوها بالمفارق والطرقات، وأرسلوا منها نسخا للأعيان وعينوا المهندسين ومعهم أشخاص لتمييز الأعلى من الأدنى وشرعوا في الضبط والإحصاء وطافوا في الجهات لتحرير للقوائم وضبط الأسماء وأربابها ... إلخ.»
ولا شك في أن هذه الاجتماعات، وما نشر من قبل من مشروع الضرائب الجديدة قد شغل بال أهالي القاهرة، فكان ذلك حديثهم في مجتمعاتهم وكثر لغطهم، وتضاربت آراؤهم، وغير خاف أن ثروة مصر في ذلك الزمن تجمعت في مدينة القاهرة، وتنوعت طبقات أهلها، من الملاك وأصحاب الدور الكبيرة والوكائل العديدة والحوانيت الكثيرة، إلى أرباب الحرف الصغيرة، وهذه الضريبة تمسهم جميعا من الكبير إلى الصغير، وكانوا قد ألفوا عدم دفع ضريبة ما اكتفاء بما كان المماليك يتحصلون عليه من أثمان محصولات البلاد، وما كانوا يفرضونه من الضرائب والمغارم على الأغنياء من التجار المصريين والأجانب على حد سواء.
فلا غرابة إن أظهر أهل القاهرة التململ من هذه الضرائب الجديدة الفادحة التي لم تخل منهم كبيرا ولا صغيرا، ولا غنيا ولا فقيرا، فكان ذلك سببا لثورتهم وهياجهم، تلك الثورة التي عادت عليهم بالوبال والنكال كما سنفصل ذلك في مكانه.
ومن رأي «لاكروا» عن أسباب الثورة، أن الأغنياء وأصحاب المصالح من المصريين مالئوا الفرنساويين وامتنعوا عن مقاومتهم؛ لأن صوالحهم تقضي عليهم بتجنب أسباب القلاقل، ولكن فرض هاتيك الضرائب على دورهم وعقارهم، وتركاتهم وديونهم ومؤاجراتهم، ودخلهم وخرجهم، قد نفر قلوبهم من الفرنساويين فساعدوا على تحريض العامة والغوغاء.
ومن رأي «بيريه» أن بعض علماء الأزهر وغيرهم من المشايخ الذين لم ينتخبوا لعضوية الديوان، ولم يشاركوا الفرنساويين في الأحكام وإدارة الأمور، حقدوا على الآخرين الذين خصوا بذلك وصارت لهم كلمة مسموعة في شئون البلاد، فانتهز أولئك الحاسدون فرصة تذمر الناس من الضرائب الجديدة، فحرضوهم على الهياج والثورة تحت ستار الدين.
ومن المؤرخين من ينسب ثورة أهالي القاهرة لتحريضات المماليك وما ورد من إبراهيم بك من المنشورات، ومن رجال الدولة العثمانية من المراسلات والمكاتبات، ومن هؤلاء المعلم نقولا الترك، وهاك ما يقوله في هذا الصدد ننقله بحرفه لما فيه من الفائدة التاريخية، وليقف القراء على أسلوبه ونظريته: قال: «إنه من بعد أن مكثت الفرنساوية، في المملكة المصرية مقدار ثلاثة أشهر فكان المسلمون يظنون أن سترد لهم الأوامر من الدولة العثمانية بتقريرهم على المملكة حسبما كانوا يشيعون، أنهم حضروا إلى مصر بإدارة السلطان سليم، وكان يخبر أمير الجيوش بقدوم عبد الله باشا العظم من الشام إلى مصر وأعد له منزلا ينزل فيه وأمر بتدبيره وفرشه ومضت المدة المعينة ولم يحضر أحد فتسبب من قبل ذلك أسباب كثيرة للنفور، وإيداع الفتن والشرور، من قتل السيد محمد كريم؛ لأنه كان أحد الأشراف، ومن ورود المكاتيب من الأمراء المصريين، وكتابات أحمد باشا الجزار إلى البلاد المصرية، واستنهاضهم على الفرنساوية، وإنه قادم عليهم بالعساكر العثمانية، وقد كان الفرنساوية يخرجون البنات والنساء المسلمات، مكشوفات الوجوه في الطرقات، ثم اشتهار شرب الخمر وبيعه إلى العسكر، ثم هدم جامع ومنارات في بركة الأزبكية لأجل توسيع الطرقات، لمشي العربات، وكان المسلمون يتنفسون الصعداء من صميم القلوب، ويستعظمون في هذه الخطوب وصاحوا لقد آن أوان القيام، على هؤلاء اللئام، فهذا وقت الانتصار إلى الإسلام.»
صفحة غير معروفة