النكبات: خلاصة تاريخ سورية منذ العهد الأول بعد الطوفان إلى عهد الجمهورية بلبنان
تصانيف
5
ولم يكن الجزار منقطع النظير في ذاك الزمان، إلا أنه كان أشهر الجزارين وأغربهم أطوارا. فهذا بربر (البربري) القلموني حاكم طرابلس، أحد أولئك الذين كانت تعول الدولة عليهم في إخضاع البلاد بأية طريقة كانت، خصوصا بإلقاء الفتن وإثارة الحروب بين أمرائها.
وهو ذا جزار آخر، هو جبار زاده جلال الدين باشا والي حلب (1227ه/1811م)، الذي كان يجمع الأموال بالسيف «ولا يكاد يمضي يوم إلا ويقتل إنسانا.»
وكان لهذا الجزار طريقة جديدة في التغريم والإرهاب. قال المؤرخ: «إن ابن جبار كان يرسل من طرفه اثنين حاملين بلطة، يأتيان بمن تجب مصادرته، فيزج في السجن، ويوضع في رقبته سلسلة لها شوك، ثم يطالب بما قرر عليه، فإذا لم يدفع في ثلاثة أيام يخنق ويرمى تجاه باب القلعة، وكلما خنقوا واحدا أطلقوا مدفعا، فكان يعلم عدد المخنوقين في الليلة من عدد المدافع.»
وهو ذا صاحب السعادة في السوق يتفقد شئون الرعية، يمشي الهويناء محدقا في الفضاء، وقد مشت العساكر والبلطجية عن يمينه وعن شماله، ثم يدير بوجهه إلى أحد التجار، فيبادر البلطجية إليه ويضربون عنقه! هنيئا لمن يرمقهم الباشا بنظرة من نظراته. وكان كل مرة يتفقد شئون الرعية يدير بوجهه ثلاث مرات، فيقع التعطف العالي على ثلاثة رجال، ولا ذنب لهم غير ما يريده من إرهاب الناس. لا أظن جزار عكا على غرابة أطواره وفظاعتها، كان يحسن الاختراع مثل جزار حلب في التغريم والإرهاب. •••
ومن الجزار البشناقي إلى الدستور العثماني (1908م) مائة سنة كاملة تمثل في الشطر الأول منها حرب الطوائف شر تمثيل، وامتاز الشطر الثاني بامتيازات الطوائف في لبنان، تلك الامتيازات التي كانت بنتائجها شرا من الحروب؛ لأنها عززت التعصب الديني عدو الإنسانية الأكبر.
أما أهم الحوادث في الشطر الأول من القرن التاسع عشر، فهي التي تبتدئ بإبراهيم باشا المصري الذي جاء هذه البلاد صائلا فاتحا، وتنتهي بمذابح السنة الستين. وهل من صلة بين الحادثتين؟ أجيب: نعم، بل أعتقد أنه لولا مجيء إبراهيم المذكور لما كانت تلك الحوادث، وهاك البرهان:
كان ولا يزال أبناء هذا الجيل ينقادون كل الانقياد إلى رؤسائهم الدينيين والمدنيين، وقد أوسعتك علما بهؤلاء الرؤساء لتتأكد أنهم في كل حياتهم وكل أدوارهم لم يهتموا لغير مصالحهم الخاصة، ولم يكونوا حتى في ذلك من الحكماء دائما.
دخل إبراهيم باشا البلاد فاتحا منتصرا (1830م)، وكان الأمير بشير الشهابي الملقب بالكبير مع إبراهيم، وكان إبراهيم والأمير يحاربان الدولة العلية، وكانت فرنسة سياسيا معهما. وفرنسة، «أمنا الحنون»، تسمسر لنا دائما بالطيبات - بالمذابح! ... ساعدوا إبراهيم تنجوا من الترك!
نزل رجال لبنان إلى الميدان، وكان الدروز يومذاك مع الدولة، أو بالحري كانوا أعداء الشهابيين. هي اليمنية والقيسية تبعثان ثانية وتستأنفان القتال، أما ظاهر الأمر فهو أن الدروز كانوا مع الدولة على إبراهيم وأنصاره، فسجلت الدولة هذه المكرمة للدروز، ولم تنس نصارى الجبل. هذي هي بذور السنة الستين وما تقدمها من المذابح.
صفحة غير معروفة