5
فيتقدم باعتراضات منها أننا لو جعلنا معنى الجملة متوقفا على وسائل تحقيقها لما كان لجملة معنى لأنه ليس هنالك جملة كاملة في وسائل تحقيقها؛ ذلك لأن وسائل تحقيق الجملة تتناول النتائج التي تترتب على صدقها، وهذه النتائج تمتد ما امتد الزمن؛ وإذن فلا سبيل إلى معرفتها، وبالتالي فلا سبيل إلى تحقيقها. وقد كنا لنقبل هذا الاعتراض لو كنا نزعم أن التحقيق الذي نريده للجملة لكي يجعل لها معنى، هو التحقيق الذي ينتهي بنا إلى اليقين الكامل، ولكننا نعترف بأن مدى علمنا إزاء أي جملة خبرية هو درجة من الاحتمال قد تعلو إلى أي حد شئت، لكنها لن تكون يقينا كاليقين المألوف لنا في الرياضة؛ إذ يكفي أن تكون ناقلا في جملتك خبرا ليكون نقلك هذا - من الوجهة المنطقية - معرضا للخطأ، وبذلك يكون صدقه - في حالة الصدق - احتماليا لاحتمال أن يكون كاذبا؛ فإذا قلت لك - مثلا - إن النيل يفيض في شهر أغسطس من كل عام، لم يكن من حقك أن تعترض - كما اعترض رسل - قائلا بأنه لو كان معنى هذه الجملة هو نفسه وسيلة تحقيقها، كانت بغير معنى لأن تحقيقها الكامل محال، وهو محال لأنني إذا علمت أن النيل قد فاض في أغسطس من كل عام مضى، فلا يمنع مانع منطقي من غياب هذه الظاهرة في الأعوام المقبلة؛ وإذن فلأنتظر طوال هذه الأعوام المقبلة قبل أن أقضي بالصواب على هذه الجملة، وقبل أن أقضي بأن لها معنى؛ لأن تحقيق صوابها وكونها ذات معنى هما وجهان لشيء واحد؛ أقول إنك لو اعترضت بمثل هذا، أجبناك بأن الصدق المزعوم للجملة الإخبارية قصاراه أن يكون احتماليا بدرجة عالية، فإن كانت خبرة الماضي عن فيضان النيل تبرر لي أن أرجح ماذا سيكون عليه في المستقبل، كان هذا الترجيح وحده كافيا للحكم بصواب الجملة وللقول بأنها جملة تحمل معني ما دامت جملة ممكنة التحقيق.
ومن الاعتراضات التي يعترض بها «رسل» أيضا على معيارنا في قبول الجملة أو رفضها على أساس إمكان تحقيقها أو عدم إمكان ذلك، قوله إن ذلك المعيار نفسه هو بمثابة جملة لا يمكن تحقيقها وبالتالي فهي جملة ليست بذات معني ولا يجوز قبولها؛ فلو جاز لي أن أقبل جملة مثل «البرتقال أصفر» لأن الرجوع بمضمونها إلى الخبرة أمر ممكن، فأين الخبرة التي أرجع إليها لأتحقق من معنى جملة تقول: «العبارة التي لا يمكن تحقيقها هي عبارة بغير معنى»؟ ولسنا ندري بماذا نجيب إلا بشيء من منطق رسل نفسه، وهو نظريته في الأنماط المنطقية التي تجعل نوع الحكم الجائز في نمط معين غير جائز في نمط آخر، فما تحكم به على الأفراد لا يصلح للحكم على الفئات، وما يصلح للحكم على الفئات لا يصلح هو نفسه للحكم على فئات الفئات وهكذا؛ فإن جمعت قائمة من قضايا وأمكنك أن تصف كلا منها بوصف ما، فلا يجوز أن تقول هذا الوصف نفسه بالنسبة لمجموعة القضايا كلها، وعلى ذلك فلا يجوز أن أطالب بتطبيق المبدأ الذي أطبقه على أعضاء القائمة وهي فرادي، على الجملة العامة التي تقال عن سائر هذه الأعضاء دفعة واحدة؛ إن مصداق كل جملة مفردة هو الواقعة الخارجية التي جاءت تلك الجملة لتصفها، أما الجملة العامة التي تقال عن مجموعة الجمل المفردة مصداقها هو الجمل المفردة نفسها لا عالم الواقع وعالم الخبرة المباشرة، ومن هنا لم يكن يجوز للناقد أن يسأل عن الخبرة التي نؤيد بها قضية عامة تقال عن سائر القضايا. ولأضرب مثلا موضحا قبل أن أترك الحديث في هذه النقطة لأنها نقطة كثيرا ما ترد على أقلام الناقدين، فافرض أن في مكتبتي مائة كتاب، وأنني وصفت كل كتاب بجملة، فأقول مثلا هذا الكتاب الفلاني يبحث في حياة سقراط وفلسفته، وهذا الكتاب الثاني يشتمل على مذكرات كتبها فيلسوف معاصر وهكذا، ثم افرض أني قلت عن هذه الجمل المائة بعد الفراغ منها هذه العبارة الآتية: «هذه الجمل كلها أوصاف للكتب التي في مكتبتي.» فها هنا ترى أن الجمل المفردة يتحقق صدقها بالرجوع إلى الوقائع الخارجية؛ أي إلى الخبرة المباشرة بما هنالك، وأما الجملة العامة التي تشير إلى الجمل المفردة فلا يكون تحقيقها بالرجوع إلى خبرة حسية كما هي الحال في الجمل المفردة، بل يكون تحقيقها بالرجوع إلى الجمل المفردة نفسها. ونعود بعد هذا الشرح كله إلى قول الناقد للوضعية المنطقية بأن معيارها القائل بأن ما ليس يمكن تحقيقه بالخبرة لا يكون ذا معنى، هو نفسه قول لا يمكن تحقيقه بالخبرة؛ وإذن فهو قول بغير معنى، نعود إلى قول الناقد هذا لنرده بما أسلفناه من شرح يوضح اختلاف النمط في كل من الحالتين، ومع اختلاف النمط بين قضيتين - واحدة تشير إلى واقع، وأخرى تشير إلى القضية الأولى لا إلى الواقع - أقول إنه مع اختلاف النمط بين قضيتين لا يجوز الحكم عليهما بصفة واحدة.
الفصل العاشر
من السببية إلى القانون العلمي
1
لو كانت الأشياء ساكنة ثابتة على حالة واحدة لا تتغير، لما نشأت عند الإنسان فكرة السببية؛ لأن هذه الفكرة وليدة ما يطرأ على الأشياء من تغير؛ فما ينفك الشيء الواحد - فيما ندركه منه بحواسنا - يتغير ويتبدل حالا بعد حال، فلا يسعنا إلا أن نتساءل إزاء كل حالة من حالات التغير قائلين: ما علة التغير هنا؟ أيكون ثمة علاقة بين التغير الطارئ على هذا الشيء المعين والتغير الطارئ على ذلك الشيء الآخر؟ أيكون ثمة علاقة - مثلا - بين الذبول الذي أصاب هذه الزهرة وبين ارتفاع الحرارة في الهواء المحيط بها؟ وإن كان هنالك مثل هذه العلاقة بين الظاهرتين فماذا عساها أن تكون؟
وقد لفتت ظاهرة التغير هذه أنظار الفلاسفة منذ فجر التفكير الفلسفي المنظم؛ إذ سأل الفلاسفة الأولون سؤالا أساسيا جعلوا له أسبقية على سؤالنا عن العلاقة بين حالة التغير هنا وحالة التغير هناك، سأل هؤلاء الأولون قائلين: ما الذي يتغير؟ إنه لا شك فيما تنبئنا به حواسنا من حالات التغير في هذا الشيء أو ذلك؛ فالشمس تشرق ثم تغرب، والقمر يظهر ثم يختفي، والنهر يفيض بمائه ثم يغيض، والزهر يتفتح ثم يذبل، وكل حي صائر إلى موت؛ هذه كلها ضروب من التغير لا شك في حدوثها، فقبل أن نسأل عنها، وجب أن نسأل عما وراءها: فما العنصر أو العناصر التي يطرأ عليها هذا التغير أو ذاك؟ أيكون هناك تغير دون أن يكون هناك ما يتغير؟ وهكذا راح فلاسفة اليونان يسألون عما وراء هذا التغير الظاهر من ثبات، وعما خلف هذه الأعراض العابرة من دوام.
وسرعان ما تبلورت المشكلة في هذه الصورة: كيف يكون الكون متغيرا وثابتا في آن واحد؟ كيف يجتمع هذان النقيضان في شيء واحد بحيث يجوز لنا أن نقول عنه إنه ذو جوهر ثابت ومع ذلك فهو يتغير حالا بعد حال؟ فإن كان لهذه الزهرة حقيقة ثابتة فكيف نقول عنها في الوقت نفسه إنها تذبل بعد نضارة وتزول بعد نماء؟ وقل سؤالا كهذا عن الكون كله؛ فإن كان ذا حقيقة ثابتة دائمة فكيف نقول عنه في الوقت نفسه إنه متغير متحول، على النحو الذي تدركه الحواس؟
أما الإيليون فقد أزالوا التناقض ببتر أحد شطريه، فجعلوا للحقيقة القائمة ثباتا، وأنكروا أن يكون التغير البادي أكثر من خداع ووهم؛ فإن كان ثبات الحقيقة يدركه العقل، وتغير الظواهر تدركه الحواس، فالعلم الجدير بهذا الاسم هو ما يدركه العقل لا ما تدركه الحواس. وأما هرقليطس فقد أزال التناقض أيضا ببتر أحد شطريه، لكنه بتر ما أبقاه الإيليون، وأبقى ما بتروه ، فلا ثبات هناك - عند هرقليطس - ولا دوام، وكل ما في الأمر تغير بلا متغير، وحركة بلا متحرك، كل ما هنالك حالات يعقب بعضها بعضا، وما نظنه في الأشياء من دوام هو الوهم وهو الخداع. إن هذا الذي تسميه نهرا هو في الحقيقة حالات عابرات، لا تكاد حالة منها أن تحل حتى تزول، فليس النهر الذي تغمس فيه قدمك الآن هو هو النهر نفسه الذي تعود فتغمسها فيه مرة أخرى، مهما يكن من قصر الفترة التي تفصل الغمستين، فأنت - على حد تعبير هرقليطس - لا تخطو في النهر الواحد مرتين. وجاء أفلاطون بحل ثالث يعالج به التناقض في قولنا عن الشيء إنه ثابت ومتغير معا؛ إذ شطر العالم عالمين، فعالم منهما يكون للثبات، والآخر يكون للتغير؛ فأما عالم الثبات فقوامه أفكار مجردة لا أشياء مفردة، ومن طبيعة الفكرة المجردة أن تكون ثابتة دائما على تعريف واحد، مهما أصاب تطبيقاتها من تغيرات تجعلها تبعد أو تدنو من الفكرة النموذجية لهذه التطبيقات، فقل ما شئت عن المثلثات المرسومة على الورق من قربها أو بعدها عن المثال الكامل، لكن تعريف هذا المثلث الكامل سيظل هو هو دائما، وهذا التعريف «فكرة» قائمة، وستظل قائمة حتى إن محوت كل ما فوق الأرض من مثلثات مرسومة؛ وإذن فهنالك الجانبان معا؛ الثبات في ناحية والتغير في ناحية أخرى، ولكل منهما عالم قائم بذاته.
صفحة غير معروفة