أمعن أفلاطون في الموازنة بين ضروب المعرفة ودرجاتها، فتنبه لما لم يتنبه له سقراط، وهو أن كل مرحلة من المرحلتين الرئيسيتين يمكن قسمتها قسمة فرعية إلى مرحلتين؛ فالمعارف الحسية درجتان، وكذلك المعارف العقلية درجتان، بحيث تكون كلها أربع درجات متفاوتة من حيث ما تحققه كل منها من الصواب. وهاك ما يقوله في ذلك أفلاطون، في آخر الكتاب السادس من «الجمهورية»: «افرض أنك قد قسمت خطا قسمين غير متساويين، يمثل أحدهما مجموعة الأشياء المرئية، ويمثل الآخر مجموعة الحقائق العقلية، ثم قسمت كلا من القسمين جزأين بنفس النسبة التي بين القسمين الكبيرين؛ فعندئذ إن جعلت أطوال الأجزاء (الأربعة) تمثل درجات الوضوح أو عدمه، كان أحد الجزأين في قسم الأشياء المرئية ممثلا لطائفة الصور؛ وأعني بها الظلال أولا، والانعكاسات على سطح الماء وغيره من المواد المصقولة الملساء اللامعة ثانيا. وكان الجزء الثاني ممثلا للأشياء الحقيقية التي هي أصول تقابلها هاتيك الصور؛ وأعني بالأشياء الحقيقية صنوف الحيوان من حولنا وكافة أشياء العالم الطبيعي وعالم المصنوعات.
وأما القسم الثاني الكبير، فأحد جزأيه يمثل حقائق نبحثها مستعينين بأشياء الطبيعة وصورها (في جزأي القسم الأول)؛ فها هنا نبدأ بالفروض، ونسير - لا في طريقنا إلى المبدأ الأول - بل نسير إلى النتائج التي تتولد عن تلك الفروض. وأما الجزء الثاني من القسم الثاني فيمثل حقائق النفس حين تبدأ من الفروض - لا هابطة إلى النتائج - بل صاعدة إلى المبدأ الأول. وهذا المبدأ لا يكون مشروطا بشرط، ولا هو بحاجة إلى معونة أشياء الطبيعة وصورها؛ فالنفس ها هنا لا تستعين في طريق رحلتها إلا بالمثل الحقيقية التي هي من الأشياء ماهياتها.»
هذا نص غاية في الأهمية، يبين درجات الوضوح في مختلف العلوم؛ فالعلوم الطبيعية لا تجاوز حدود التخمين والظن؛ لأنها تتناول بالبحث أشياء جزئية متغيرة. والعلوم الرياضية وإن تكن يقينية إلا أنها على شيء من القصور؛ لأنها أولا معتمدة في ظهور حقائقها على الأشياء الجزئية، وثانيا لأنها لا بد أن تفترض فرضا تجعله نقطة الابتداء، ومنه تسير نازلة إلى النتائج التي تتولد عن ذلك الفرض. وأما المعرفة الفلسفية فهي الحدس المباشر للمثل على حقيقتها.
فالعالم الرياضي إذا ما أراد أن يبحث في خصائص المربع - مثلا - رسم مربعا وافترض أنه مربع حقيقي، قائلا: افرض أن أ ب ج د مربع. ولماذا يفرض أنه مربع؟ يفرض ذلك لأن ما قد رسمه وإن يكن قريب الشبه بالمربع إلا أنه ليس هو المربع كما يقتضيه تعريف المربع في الهندسة؛ فقد لا يكون السطح تام الاستواء، وقد لا تكون الخطوط تامة الاستقامة، على حين أن المربع بحكم التعريف هو السطح المستوي المحاط بأربعة خطوط مستقيمة ومتساوية ومتعامدة؛ وإذن فلا مناص للرياضي من أن «يفرض» أن الشكل الرسوم مربع ليمضي في إقامة البرهان على ما يريد أن يقيم عليه البرهان. أما إذا أراد أن يعرف المربع كما تقتضيه ماهيته، فلا يكون سبيل ذلك فرضا يفرضه، بل سبيله أن يتصور بعقله مثال المربع فيراه رؤية مباشرة، ورؤية المثل هي غاية الفلسفة.
ويهمنا من هذا كله طبيعة التفكير الرياضي الذي أراد سقراط أن يصطنعه في تحليله للمدركات الخلقية ليصل في هذه المدركات إلى العلم اليقيني؛ فالمنهج الرياضي - كما رأينا عند سقراط وعند أفلاطون معا - ضرب من التفكير يتخذ لنفسه بداية يبدأ منها شوطه نازلا إلى النتائج، ولا يصعد مجاوزا تلك البداية؛ أي إنه لا يجعل البداية نفسها محل بحث، بل يسلم بصدقها ثم يستنبط.
لم يكن علما - عند اليونان - ما ليس يبلغ درجة اليقين؛ ولذلك فالفلسفة الديالكتيكية علم لأنها تصعد بصاحبها إلى قمة ينظر فيها إلى الحقائق العقلية نظرا حدسيا مباشرا. والرياضة علم لأنها تسلم بنقطة الابتداء ثم تستنبط النتائج التي يتحتم أن تكون صحيحة ما دامت نقطة الابتداء صحيحة. وأما علم الطبيعة الذي يبحث في الجزئيات فلم يكن عندهم وجود بالمعنى الذي يفهمه أصحاب هذا العلم في العصر الحديث؛ فجزئيات الطبيعة متغيرة عابرة، والعلم ينشد حقا له ثبات ودوام.
ولا غرابة بعد هذا أن نجد أرسطو حين أراد أن يستخلص منطق الفكر من واقع الفكر اليوناني، لم يجد ما يصلح أن يكون منطقا إلا الصور القياسية؛ فلا فكر بغير استدلال النتيجة من مقدماتها. وهو يعرف القياس بأنه: «قول قدم له بمقدمات معينة؛ فلزم عنها بالضرورة شيء غير تلك المقدمات.» أي إنه لا بد للعملية الفكرية السليمة من وجود مقدمات مسلم بها، ثم تتولد عنها نتائج مضمونة الصدق؛ لأن المستدل لا يضيف من عنده شيئا؛ ومن ثم فهو لا يتعرض للخطأ.
وجاءت بعد ذلك العصور الوسطى؛ فمسيحية في الغرب وإسلام في الشرق الأوسط، ولكل من الديانتين رجال أرادوا تحليل أصول عقيدتهم تحليلا يستخرج فروعها ويبرز نتائجها ويوضح تطبيقاتها؛ فأين عساهم أن يجدوا أداة تعينهم في عملهم خيرا من المنطق القياسي الذي فصل أرسطو شروطه وقواعده؟ إن بين أيديهم كتابا أو كتبا لا يجوز عندهم أن تكون موضع شك ولا ريبة، وكل ما يطلب منهم هو إخراج ما يمكن إخراجه من نتائج كامنة في نصوص تلك الكتب؛ أي إن العمل المطلوب هو استنباط النتائج لا وضع المقدمات؛ فالمقدمات قد نزل بها الوحي من السماء، وأعني بها نصوص العقيدة؛ فالباحث هنا لا يخلق الجنين بل يستولده. وهو بالطبع لا يبيح لنفسه أن يستولد من النتائج ما يمكن أن يكون موضع شك ، بل لا بد له من الوصول إلى أحكام يقينية، وهو لا محالة واصل إليها ما دام قد أخذ نفسه بالحذر في استخراج النتيجة من النص استخراجا لا يضيف إليه من عنده شيئا.
3
وذهبت العصور الوسطي وجاء العصر الحديث، فكان ديكارت في مستهله يمثل ما كان سقراط في موضعه من تاريخ الفكر اليوناني، على بعد ما بين الرجلين من اختلاف؛ فكلاهما قد جاء حين كانت فترة من الشك مدبرة وفترة من التفكير الإيجابي مقبلة، وكلاهما كان صاحب منهج يقدمه فاتحة للعصر الإيجابي الجديد، وكلا المنهجين قام على أساس ما قد ظن صاحبه أنه علم يقين يصح أن يكون نموذجا لكل تفكير يريد أن يكون يقيني النتائج، وكلا الرجلين لم يجدا بدا من التشكك فيما كان يعرفه؛ لكي يتسنى للمنهج الجديد أن يبنى على أرض صلبة وأساس متين، وكلاهما قد فرقه بين مصدرين للمعرفة؛ فمعرفة تأتي من الخارج عن طريق الحس، ومعرفة تنبع من الداخل عن طريق الفكر، مؤثرا أن يلتمس المعرفة الصحيحة من المصدر الداخلي لا من خبرة الحواس. وفوق هذا وهذا وذاك من أوجه الشبه بين الرجلين أن كليهما قد جعل العلم الرياضي مفتاح المنهج الجديد.
صفحة غير معروفة