4
قدمنا لك حتى الآن نوعين من الكلمات لتبين حدود الدلالة لكل نوع منهما، وهما أسماء الأعلام من جهة والأسماء التي هي في حقيقة أمرها مركبات وصفية من جهة أخرى، وقلنا في اسم العلم بمعناه الشائع كاسم «العقاد» مثلا، إنه في الحقيقة يجمع تحته ألوف الحالات التي هي الحالات التي مرت متتابعة فكونت تاريخ حياة رجل هو الذي نطلق عليه اسم «العقاد»؛ وإذن فما يظن أنه اسم يشير إلى فرد جزئي هو في الحقيقة رمز يشير إلى سلسلة طويلة من الأحداث، ولو شئنا اسم علم بمعناه الصحيح لجعلنا اسما لكل حالة جزئية من حالات العقاد. ولعل اسم الإشارة «هذا» خير ما يدلنا على الحالة الجزئية الواحدة؛ فكل حالة نستطيع أن نشير إليها بقولنا «هذا» أو «هذه» تكون هي الحالة الجزئية الواحدة من حالات الفرد الواحد؛ ومعنى ذلك أننا إذا شئنا أن نتبين إزاء اسم ما إن كان اسما يطلق على فرد ذي وجود فعلي أو لم يكن، تحتم أن نتصور لذلك الفرد حالة معينة جزئية يمكن الإشارة إليها في نقطة معينة من نقاط المكان، وفي لحظة معينة من لحظات الزمن، قائلين: «هذه.»
وكذلك قلنا في الكلمات التي هي في الحقيقة مركبات وصفية، ومنها ما يكون المركب الوصفي فيه منطبقا على فرد واحد، كقولنا «العدد الذي يقع بين 3، 5»، أو «القائد العربي الذي فتح مصر»؛ ومنها ما يكون المركب الوصفي فيه مشيرا إلى أي فرد من مجموعة متشابهة الأفراد، مثل قولنا «إنسان» و«نهر»؛ قلنا في أمثال هذه الرموز الوصفية إنها لا تقتضي بالضرورة وجود مسماها وجودا فعليا، فلا يكفي أن يكون الرمز اللغوي قائما بيننا لنقول إن له مسمى في عالم الأشياء الواقعة، بل لا بد أن يضاف إلى ذلك وقوعنا على الفرد الموصوف في الحالة الأولى أو على أحد أفراد المجموعة الموصوفة في الحالة الثانية؛ إذ لا فاصل هنا بين الكائن الوهمي والكائن الفعلي إلا شهادة الحواس.
وننتقل الآن إلى ضرب ثالث من الكلمات هو أخطرها جميعا من الناحية المنطقية، وإن لم تكن كلماته مما يشير إلى شيء إطلاقا في عالم الواقع، وأعني به تلك الكلمات التي تصل أجزاء الكلام بعضها ببعض وصلا تكون له دلالته في الاستدلال العقلي، ولا تكون له إشارة إلى شيء واقع، مثل واو العطف، وكلمة «أو»، وكلمة «إذا»، وكلمة «ليس»، وكلمة «كل»، وكلمة «بعض»، وما إليها؛ فليس في العالم الخارجي شيء بين الأشياء اسمه «أو» أو شيء اسمه «إذا» أو «ليس»؛ فإذا قلت إنني «رأيت البرق وسمعت الرعد»، كان الذي حدث في عالم الواقع حدثان هما «رؤية» و«سمع»، وأما «و» التي تصل بينهما فلم تكن حدثا ثالثا ولم تكن جزءا من أي من الحدثين. وكذلك لو قلت «الشمس إما طالعة أو غاربة»، كان الذي هو حادث في عالم الواقع أحد أمرين، ولما كنت أجهل أيهما عبرت عن هذا الجهل بقولي «أو»، لكن عالم الأشياء لا تردد فيه، إن فيه أمرا واحدا، ففيه الشمس طالعة أو فيه الشمس غاربة، وأما التردد فحالة عقلية عندي أنا القائل الذي يعلم أن أحد الأمرين لا بد واقع ثم لا يعلم أيهما يكون.
وهم يسمون أمثال هذه الكلمات بالكلمات المنطقية أو بالكلمات البنائية؛ لأن عملها مقصور على بناء العبارة اللغوية بناء يجعل منها فكرة، واستعمالها يقتضي وجود كلمات سابقة عليها في الوجود، فلا تستطيع أن تقول «مقعد أو منضدة» إلا إذا عرفت أولا كلمتي «مقعد» و«منضدة»؛ ولذلك ترى أسماء الأشياء يأتي تعلمها أولا في حياة الطفل ثم تأتي بعد ذلك أمثال هذه الكلمات، فيستحيل أن يبدأ الطفل تعلمه للغة بكلمة «أو» أو كلمة «إذا»، لكنه يبدأ بكلمات مما تسمي كل كلمة منها شيئا مما يقع في خبرته، ثم يتعلم بعد ذلك كيف يبني من هذه الكلمات الشيئية أفكارا باستخدامه للكلمات المنطقية التي ذكرناها .
والكلمات المنطقية هي الركائز الثابتة التي تحدد «صورة» الفكرة، بينما تحدد الكلمات التي هي أسماء أو صفات «مادة» الفكرة؛ ففي قولنا - مثلا - «صيف وشتاء » تستطيع أن تستبدل بكلمتي «صيف» و«شتاء» كلمتين أخريين فتتغير «مادة» الفكرة، فنقول - مثلا - «حساب وهندسة» أو «قيس وليلى»، لكنك لا بد أن تحتفظ بالكلمة المنطقية «و» إذا أردت أن تحتفظ للفكرة «بصورتها»، بل تستطيع أن تسقط الكلمتين اللتين تحددان مادة الفكرة، وتضع مكانهما رموزا متغيرة مثل «س» و«ص»، وتحتفظ بواو العطف، فتحتفظ بصورة الفكرة كما هي، والصورة في هذه الحالة هي: ««س» و«ص».» ولعلك تعلم أن تجريد الأفكار عن «مادتها» وإبقاء «صورها» هو مما يبحث فيه المنطق؛ ولذلك فهو كثيرا ما يسمى ب «المنطق الصوري» لأنه يهتم بالصورة بعد إفراغ مادتها؛ لأن مقارنة الصور الفارغة بعضها ببعض أيسر من مقارنة الأفكار وهي مليئة بمادتها، وهو إنما يهتدي إلى صورة الفكرة لو اهتدى إلى متغيراتها من جهة وثوابتها من جهة أخرى، فيسقط الأولى واضعا مكانها رموزا، ويبقي على الثانية فتبقى له الصورة التي هي الإطار الأساسي المعد لأي حشو يملؤه، فيكون هذه الفكرة أو تلك مما يقع كله تحت صورة واحدة؛ فالصورة واحدة في عبارتي «حساب وهندسة» و«قيس وليلى»، والصورة واحدة في عبارتي «الأربعاء أو الخميس» و«السينما أو المسرح»، والصورة واحدة في عبارتي «إذا رأيت البرق سمعت الرعد» و«إذا أمطرت السماء اخضر الزرع»، وهكذا. ولو اهتدى المنطقي إلى مجموعة الصور المختلفات في فكر الإنسان، اهتدى إلى العناصر الأساسية التي ينحل إليها ذلك الفكر.
إنه إذا اختلف فلاسفة المنطق في عصرين في تحليلهم للصور التي يرد عليها الفكر الإنساني على اختلاف مادة ذلك الفكر، كان اختلافهم ذلك دالا على اختلاف في مذاهبهم الفلسفية بصفة عامة، وكان اختلافهم - بالتالي - دليلا على تغير الجو الفكري كله في أحد العصرين عنه في العصر الآخر؛ فها هو ذا أرسطو يستعرض الأفكار ويحللها، مسقطا متغيراتها مبقيا على ثوابتها ليستخرج صور الفكر؛ فإذا بالتحليل ينتهي به إلى أن العلاقة الثابتة في كل فكرة كائنة ما كانت، وهي العلاقة التي تحدد صورة الفكرة مهما تكن مادة هذه الفكرة، هي علاقة الموصوف بصفته، كأنما كل فكرة يمكن صبها في هذا القالب: «س هي ص.» فقل - مثلا - «الحصان أبيض»، أو «الإنسان عاقل»، أو «العدد 3 يقع بين العددين 4، 5»، أو «القاهرة أكبر من الإسكندرية»، أو ما شئت من قول، تجد - في رأي أرسطو - أن قولك يرتد إلى موضوع معين تصفه صفة ما؛ أي إن كل فكرة قوامها موضوع ومحمول كما يقول أهل المنطق؛ وإذن فلا فرق من حيث الصورة بين فكرة وفكرة مهما بعدت الفكرتان بعد ذلك في مادتهما؛ ففي كل مثل من الأمثلة السابقة يمكنك أن تعيد الصياغة بحيث تصبح الجملة «كذا هو كيت».
وإن كان ذلك كذلك، ثم إذا كانت أفكارنا تنبئ عن حقيقة العالم، كان قوام العالم أشياء وصفاتها، أو موضوعات ومحمولاتها، أو جواهر وأعراضها؛ وهذه الموضوعات نفسها منها الأعم ومنها الأخص، بحيث تستطيع أن تعلو في سلم التدرج من الخاص إلى العام، حتى تنتهي إلى جوهر خالص تأتي سائر الصفات فتصفه فيكون هذا الكائن أو ذاك. وهكذا ترى كيف ينتهي المنطق الذي يجعل صورة الفكرة كائنة ما كانت هي صورة «الموضوع والمحمول»؛ أي صورة «الموصوف وما يحمل من صفات»، كيف ينتهي بك هذا المنطق إلى نوع من الميتافيزيقا يرد الكون إلى جوهر واحد، تختلف أسماؤه عند مختلف الفلاسفة لكن الأساس المذهبي واحد.
قارن ذلك بمنطق يحلل الأفكار فلا ينتهي بها إلى صورة واحدة كالتي انتهى إليها أرسطو، بل ينتهي بها إلى كثرة من صور لا يمكن رد بعضها إلى بعضها الآخر؛ فالجملة الدالة على موصوف وصفته، كقولنا «هذا الحصان أبيض»، تختلف في صورتها عن جملة تتناول بالحديث موضوعين لا موضوعا واحدا، أو قل إنها تتناول طرفين لا طرفا واحدا، ثم تذكر العلاقة التي تربط هذين الطرفين، مثل قولنا «قيس يحب ليلى»، فليلى ليست من قيس بمثل ما يكون البياض من الحصان الأبيض؛ ففي حالة الحصان الأبيض يختفي اللون باختفاء الحصان، وأما في حالة قيس وحبه لليلى فلا تختفي ليلى باختفاء قيس. ها هنا موضوعان وبينهما علاقة، لا موضوع واحد وما يحمله من صفة . وقد تجد من العلاقات ما يتطلب طرفين كما في المثل الذي ضربناه، وقد تجد منها كذلك ما يتطلب ثلاثة أطراف أو أربعة أطراف وهكذا؛ فالعلاقة التي تمثلها كلمة «بين» لا تتحقق إلا إذا كان في عالم الواقع ثلاثة أطراف مرتبطة بها، فتقول مثلا: «العدد 3 يقع بين العددين 4، 5.» فهنالك أعداد ثلاثة لا بد منها «3، 4، 5» لتكمل علاقة «بين». وهكذا قل في سائر الجمل التي تأتي مصورة لوقائع ذوات أطراف عدة تصلها علاقات من هذا النوع أو ذاك.
إن منطقا كهذا - وهو المنطق الذي يعرف به برتراند رسل وغيره من المعاصرين - لا ينتهي بك إلى واحدية الكون في جوهر واحد مطلق وما يطرأ عليه من صفات، بل ينتهي بك إلى كثرة من وقائع، لكل واقعة منها خصائصها؛ فواقعة قوامها جزئية واحدة وصفتها، وواقعة قوامها جزئيتان والرابطة بينهما، وثالثة قوامها ثلاث جزئيات والرابطة بينها، ورابعة قوامها أربع جزئيات وما بينها من علاقات تربطها وهلم جرا.
صفحة غير معروفة