ولكن جماعة فيينا إذ جعلوا إمكان التحقيق الخبري معيارا لمعنى الجملة الإخبارية كائنة ما كانت، لم يفتهم أن هذا المعيار لا ينطبق إلا على العبارات التي جاءت لتخبر عن العالم الخارجي بخبر ما، لكن ما كل العبارات تزعم لنفسها الإخبار؛ فالقضايا الرياضية وقضايا المنطق الصوري تخرج عن نطاق هذا المعيار لأنها لا تزعم أنها إخبارية؛ وإذن فهي في الحقيقة عبارات بغير «معنى» (ونحن هنا نحدد معنى «المعنى» بالخبرات الحسية التي تشير إليها الجملة)؛ ف «المعنى» بهذا التحديد لا يكون إلا لجملة تصويرية؛ أي لجملة يراد لها أن تصور واقعة من وقائع العالم الطبيعي، وليست قضايا الرياضة والمنطق من هذا القبيل، فما هي إذن؟ هي قواعد، كقواعد لعبة معينة مثلا، يتفق عليها اللاعبون؛ فالرياضة عبارة عن قواعد اتفاقية كيف نستخدم الرموز، والمنطق الصوري قواعد لكيفية استخراجنا حكما من حكم آخر؛ فكأنما المنطق والرياضة معا هما في الحقيقة أدوات في أيدي العلماء الآخرين، يستخدمونهما في ميادينهم العلمية، أما هما فليسا بالعلمين بمعنى «العلم» الذي يقرر للطبيعة قوانينها. وسنعود إلى تفصيل القول في هذه التفرقة في مواضع أخرى من هذا الكتاب.
4
إننا نتطلب من العبارة، إذا أراد قائلها أن تكون دالة على وجود فعلي تجريبي لشيء أو أشياء في العالم الخارجي، أن تكون كل لفظة من ألفاظها إذا أريد أن يكون لها معنى موضوعي مشترك (ما عدا الألفاظ البنائية، مثل: «إذا» «ليس» «أو» وما إليها)، مشيرة إلى مضمون من الخبرة الحسية، بحيث يعرف السامع دلالة اللفظة في خبراته الماضية من ألوان وطعوم وأشكال ... إلخ؛ فإذا استخدم المتكلم كلمة «نهر » مثلا عرف السامع إلى أي نوع من الخبرات الحسية يشير المتكلم بكلمته تلك.
لكن مشكلة تنشأ ها هنا، وهي أنه إذا كان التفاهم بين المتكلم والسامع لا يتم إلا إذا كان الكلام مشيرا إلى خبرات حسية، فهل هذه الخبرات الحسية نفسها مشتركة بين المتكلم والسامع حتى يتسنى لنا أن نقول إنها أساس صالح للتفاهم بينهما؟ هبني قد أشرت لمن أتحدث معه إلى بقعة لونية قائلا له «هذا لون أصفر»، فهل عندي ما يضمن لي أن انطباع اللون على عين السامع هو نفسه «الأصفر» كما ينطبع على عيني؟ أليست الخبرة الحسية المباشرة خاصة بصاحبها؟ وإذا كان من الجائز أن يكون «أصفري» غير «أصفره»، فعلى أي أساس - إذن - يجوز لي الزعم بأنني إذا قلت «أصفر» فقد قلت شيئا مشتركا بيني وبينه؟ فليس من الناس من لا يعلم أن أمثال هذه الانطباعات الحسية المباشرة قد تختلف عند الفرد الواحد في أوقاته المختلفة، فما يجد له طعما معينا وهو في صحته يجد له طعما آخر وهو مريض، وهكذا.
ولم تغب هذه المشكلة عن جماعة فيينا حين أرادت أن تحدد معاني الألفاظ بما تشير إليه من معطيات الحس؛ فقد أدرك أعضاؤها تمام الإدراك أن المعطى الحسي كيفي؛ أي إنه لا يدرك إلا بوقعه على حاسة من يدركه، وهذا الوقع المعين على حاسة فرد معين أمر نفسي خاص به، شأنه شأن المشاعر الخاصة التي يحسها ولا أحسها معه، وإذا كانت معطيات الحس عندك ليست هي نفسها معطيات الحس عندي، فقد بطل الأساس المشترك الذي نزعمه شرطا للتفاهم الصحيح؛ لأنه يستحيل عليك أن تنقل إلي بكلمات أو عبارات ما هو مصبوب في حواسك من انطباعات؛ فطعم الطعام كما يقع على لسانك - مثلا - لا يمكن نقله إلى لساني لمجرد وصفك إياه بكلمة أو عبارة، وهل في مستطاع المبصر أن يصف للأعمي كيف يكون اللون عند العين ، أو هل يستطيع من اكتوى بالنار أن يصف لمن لم تصادفه هذه الخبرة كيف تكون لسعتها على الجلد؟ الحق أن خبرة الحواس كلها كالشوق والصبابة اللذين قال عنهما الشاعر العربي إنهما مستحيلان على الإدراك إلا لمن كابد أو عانى، فلا يعرف الشوق إلا من يكابده، ولا الصبابة إلا من يعانيها.
لذلك فرقت جماعة فيينا بين إطار اللغة ومضمونها الحسي، والإطار هو العلاقات الكائنة بين المدركات الحسية؛ فلئن كان المضمون الحسي خاصا بصاحبه، فالعلاقات التي تصله بغيره من المعطيات عامة مشتركة؛ فلو حددت لسامعي اللون الأخضر بأنه اللون الذي يراه في ألوان الطيف بين الأزرق والأصفر، تحددت بذلك علاقته عنده وعندي على السواء؛ لأننا إذا اختلفنا في كيفية انطباع الأخضر على شبكية العين، فلن نختلف على تحديد هذه العلاقة، علاقة «بين»، حتى لو كان عند سامعي عمي لوني بحيث لا يستطيع رؤية الأخضر كما أراه، فلن يكون هنالك اختلاف في التفاهم، إذا عرف أنني أعني بالأخضر ما يقع بين الأزرق والأصفر في ألوان الطيف.
هكذا نحدد الكيفية الحسية للفظة ما بموقعها بالنسبة إلى غيرها من الكيفيات، فنتغلب على مشكلة «الخصوصية» التي تجعل المعطى الحسي أمرا خاصا بصاحبه، محالا نقله إلى سواه عن طريق لفظة يستعملها اسما له، ولكننا حين نحدد معنى الكيفية الحسية بوضعها بالنسبة إلى غيرها، فنحن بمثابة من يجعل وسيلة التفاهم هي «إطار» المدركات لا «مضمونها»؛ وعلى ذلك فليس المهم عندنا أن يقف اثنان إزاء لون معين - كالأخضر - وأن يشتركا في مضمون حسي واحد؛ لأن مثل هذا الاشتراك ضرب من المحال، ولكن حسبنا أن يشترك الاثنان في رد فعل معين، كأن يستعمل الاثنان لفظة واحدة بعينها في الإشارة إلى ذلك اللون لنقول إن التفاهم المرجو قد تم بينهما، على الرغم مما قد يختلفان فيه بعد ذلك في وقع اللون على حواسهما الخاصة. بعبارة أخرى، حسبنا لكي نطمئن إلى أن معنى اللفظة أو العبارة مشترك بين المتكلم والسامع أن يكون إطار العلاقات بين المدركات واحدا عندهما معا، وإطار العلاقات - كما بينا - مما يمكن الاتفاق عليه؛ لأنه عام لا خاص.
ولما كانت العلوم الطبيعية في تحديدها لألفاظها، وفي صياغتها لقوانينها، إنما تركن إلى العلاقات؛ أي إلى «الإطار» دون المضمونات الحسية عند الأفراد المدركين، كان التفاهم في مجالها أمرا ميسورا؛ فالحرارة - مثلا - عند العالم الطبيعي ليست هي لسعتها على الجلد، بل هي عمود من الزئبق يرتفع أو ينخفض، وليس اللون عنده هو ما تراه العين، بل هو طول معين؛ أي بعد بين نقطتين على مسار الضوء، كلا ولا الجاذبية عنده هي «شعور» الإنسان حين يسقط من النافذة إلى الأرض، بل هي حركة تقاس سرعتها، وهكذا؛ ولا كذلك العلوم، أو إن شئت دقة في التسمية فقل «أشباه العلوم» التي تجعل مدارها المضمونات الشعورية الإحساسية عند الناس، كالأخلاق حين تتحدث عن «صوت الضمير»، وعلم الجمال حين يتحدث عن النشوة الجمالية، وهكذا.
5
كان من أبرز معالم الطريق التي سارت عليها جماعة فيينا في تحليلها للغة، ذلك الجهد الذي اضطلع به «رودلف كارناب»
صفحة غير معروفة