1
ليست الفلسفة العلمية التي ندعو إليها وليدة اليوم؛ فقد تناوب التفكير الفلسفي على مدى التاريخ ضربان من الفلاسفة يختلفان من حيث الدوافع التي حفزتهم إلى التفلسف؛ فهنالك الفلاسفة الذين استهدفوا بفلسفاتهم غايات دينية أو خلقية، مثل أفلاطون وسبينوزا وهيجل، وهنالك إلى جانب هؤلاء فلاسفة كان التفكير العلمي رائدهم، مهما اختلفوا في النتائج التي انتهوا إليها، مثل ليبنتز ولك وهيوم، وإلى جانب أولئك وهؤلاء فريق ثالث اتخذ طريقا وسطا، مثل أرسطو وديكارت وباركلي وكانت. «وفي اعتقادي أن الدوافع الأخلاقية والدينية - على الرغم مما قد أنتجته من نسقات فلسفية تتسم بعظمة الخيال - إلا أنها كانت على وجه الجملة عائقا في سبيل التقدم الفلسفي.»
1
على أننا وإن نكن ندعو إلى اطراح الفلسفة التي تجعل هدفها تثبيت قواعد الدين أو الأخلاق، فليس يعني هذا أبدا أن نتخلى عن الدين أو الأخلاق، وكل ما في الأمر هو أننا لا نريد للفلسفة بمعناها الاصطلاحي الدقيق أن تكون وسيلة لنشر أخلاق بعينها أو دين بذاته؛ لأن لهذين وسائل أخرى ليس بينها التحليل العقلي الموضوعي للعبارات اللغوية وما تتضمنه من قضايا وكيفية إثبات هذه القضايا، وليس من شأننا الآن أن نبدي الرأي في الطرائق المثلى لتثبيت الأخلاق أو لإثبات الدين.
مذهبنا هو «أن يكون العلم - لا الأخلاق ولا الدين - مصدر الوحي للفلسفة».
2
وليس في هذا انتقاص لما يمكن أن توحي به الأخلاق أو يوحي به الدين من ضروب الفكر، ولكن هذا كله شيء والفلسفة بالمعنى الذي نريده لها شيء آخر؛ ذلك أن المفكر إذا ما جعل رائده في التفكير عقيدة دينية أو مذهبا خلقيا، فيستحيل عليه أن يتخلى عن تقييم الأشياء والأفعال تقييما يجعل من بعضها خيرا ومن بعضها الآخر شرا، وما دام الإنسان قد تصدى لمثل هذا التقييم فقد بعد عن المنهج العلمي الذي لا يفرق في موضوع البحث بين خير وشر، ولا بين جميل وقبيح؛ فالزهرة عند عالم النبات كائن يطلب تحليله وتشريحه، ولا يطلب تقييمه جمالا أو قبحا، وكذلك العبارة اللغوية عند من يريد أن يتناولها تناولا علميا شيء يراد تفتيته إلى أجزائه ومقوماته، ولا شأن له بعد ذلك بما قد تبعثه في نفس قارئها أو سامعها من نشوة أو انقباض.
النظرة العلمية تقتضي صاحبها ألا يجاوز أوضاع الأمور الواقعة؛ فإذا أراد - مثلا - أن يحدد تأثير الضوء على حدقة العين التي ترى ذلك الضوء، حصر نفسه فيما يظهر له في حدقة العين من تغيرات، دون أن يجاوز ذلك إلى «شعور» الرائي؛ فقد يسبب وقع الضوء على العين «ضيقا» أو «ارتياحا»، لكن أمثال هذه الحالات النفسية الداخلية لا تكون جزءا من النظرية العلمية التي تصف وقع الضوء على العين. ولما كان «وضع» الأمور في عالم الواقع هو وحده مجال البحث العلمي، أطلق على النظرة العلمية اسم «الوضعية»؛ فإن كان «الوضع» القائم الذي يشغل الباحث عبارة من عبارات اللغة أو لفظة من ألفاظها، كانت «الوضعية» في هذه الحالة وضعية «منطقية»؛ ومن ثم كان هذا الاسم (الوضعية المنطقية) مميزا لطائفة من أصحاب الفكر صمموا على ألا يجاوزوا الواقع بنظرهم، وعلى أن يكون هذا الواقع الذي يختصون به هو اللغة التي يصوغ فيها سائر العلماء علومهم على اختلاف موضوعاتها.
لكن هذا الاتجاه «الوضعي» العلمي بين الفلاسفة لم يكن دائما «منطقيا» في صبغته، بل إنه لم يصبح كذلك إلا في العشار الثالث من أعوام هذا القرن. وكانت هنالك قبل ذلك اتجاهات وضعية في عالم الفلسفة، جعلت موضوع تحليلها «الأشياء» لا «العبارات اللغوية والألفاظ»، غير أنهم بالطبع لم ينافسوا علماء الطبيعة والفلك وما إلى ذلك في «أشيائهم» التي يبحثونها، ولكنهم اختصوا «بأشياء» أخرى لم تكن من شأن غيرهم من العلماء، ألا وهي - على وجه الجملة - «المعرفة الإنسانية»، فما حدودها؟ وما عناصرها؟ وما نصيبها من اليقين؟
وأول فيلسوف وضعي بالمعنى الشامل الدقيق هو «ديفد هيوم» (1711-1776م)؛ فقد تنبه ونبه الأذهان إلى أنه يستحيل على الإنسان أن يهتدي إلى وصف العالم الواقع بالتفكير الاستنباطي وحده؛ أعني أن من أراد أن يتحدث عن الوجود الخارجي في أي جزء من أجزائه، فلا يجوز له أبدا أن يحصر نفسه بين جدران رأسه، ليضع لنفسه «مبدأ» يزعم أنه قد رآه بالحدس، ثم يستنبط من ذلك المبدأ نتائجه ونتائج نتائجه، وبعدئذ يقول إن هذه النتائج التي جاءته استنباطا، إنما هي تصور هذا الجزء أو ذاك من أجزاء العالم الواقع. ولما كان هذا هو بعينه ما يفعله الفلاسفة الميتافيزيقيون، إذ ترى الواحد منهم يصف العالم الخارجي أو أي جزء منه، لا عن طريق ما قد رأت عيناه أو سمعت أذناه، بل عن طريق استنباطه المنطقي العقلي الصرف بادئا من مبدأ فرضه لنفسه فرضا؛ أقول إنه لما كان هذا الضرب من التفكير هو بعينه ما يفعله الفلاسفة الميتافيزيقيون، فقد جاء هيوم بمثابة الضربة القاتلة الأولى للتفكير الميتافيزيقي.
صفحة غير معروفة