15
4
كان الفلاسفة وما يزالون يستخدمون ألفاظا محورية هامة، دون أن يعنوا بأن تكون لمعاني هذه الألفاظ جوانبها الكمية التي يجوز أن تكون ملتقى الحديث والبحث؛ فما أيسر على الفلاسفة أن يلقوا في كتاباتهم بكلمة «الحياة» - مثلا - أو بكلمة «النظام» الذي يقولون إنهم يرونه في الكون ويتخذون من وجوده دليلا على هذا أو دليلا على ذاك، أو بكلمة «النفس» أو بغيرها من الكلمات التي يستخدمها الناس في أحاديثهم الجارية فيكون لها عندهم معني غامض.
أقول إن الفلاسفة كانوا وما يزالون يستخدمون أمثال هذه الألفاظ، كما كانوا يستخدمون ألفاظ «الحرارة» و«القوة» و«المادة»، لكن هذه المجموعة الأخيرة قد تناولها العلم فضبطها ضبطا كميا ولم تعد متروكة للحس الكيفي يختلف في أمرها بين إنسان وإنسان؛ أفتكون ألفاظ المجموعة الأولى التي ما تزال شائعة في الدراسات الفلسفية مستعصية على التكميم في تحديد معانيها، بحيث لا يكون لنا مناص من تركها هكذا نهبا لمن شاء أن يفهمها كما شاء حسب خبراته الخاصة، أم يجوز تكميمها إذا ما أتيح لها العلماء الذين يستطيعون أن يؤدوا لها ما قد أداه علماء الطبيعة فيما مضى لألفاظ «الحرارة» و«القوة» و«المادة» وما إليها؟ إنه لو تم ذلك لأصبحت كلمة «النفس» مدارا لعلم كمي مضبوط كما قد أصبحت كلمة «الحرارة» مدارا لمثل هذا العلم، ولأصبحت «الحياة» اسما لموضوع يخضع للدقة الكمية كاسم «القوة» في علم الطبيعة، وهكذا.
ولسنا نريد القول بأن «النفس» و«الحياة» وما إليهما، إذا ما عرف العلماء كيف يلتمسون لها المقاييس الكمية، أصبحت الفلسفة بذلك «علما» كما نريد لها أن تكون، كلا، بل ستكون «النفس» عندئذ أمرا لا شأن للفلسفة به، بل تكون علما قائما بذاته كسائر علوم الطبيعة، وكذلك ستصبح «الحياة» موضوعا لا دخل للفلاسفة بالخوض فيه، بل تدخل كلها في اختصاص علماء الحياة الذين يبحثون عن الظاهرة بحثا موضوعيا لا يفرقون فيه بين إنسان وحيوان ونبات إلا بمقدار ما تجيز لهم أبحاثهم الموضوعية الكمية أن يفرقوا؛ أعني أن أمثال هذه المدركات التي يخب فيها الفلاسفة خبا بغير حساب، ستخرج من مجال أحاديثهم كما تخرج كل كلمة دالة على مسمى تجريبي؛ فليس من شأن الفلسفة العلمية أن تنافس العلماء في بحث العالم الشيئي من أي جانب من جوانبه، بل إن موضع اهتمامها سينحصر في أن تتلقى من العلماء قضاياهم الأولية، التي عليها يبنون بناءاتهم العلمية، ثم يحللون تلك القضايا إبرازا لخفيها وتوضيحا لغامضها.
وقد يسأل سائل متعجبا: كيف يمكن لكلمة «نظام» في مثل قولنا إن الكون يسوده نظام وليس هو بالفوضى التي تخبط خبط عشواء؟ كيف يمكن لكلمة كهذه أن تقاس بالفرسخ أو توزن بالرطل؟ أليس معناها واضحا لكل من جري لسانه باللغة العربية التي هذه الكلمة إحدى كلماتها؟ هل يحتاج الطفل الصغير الناشئ إلى شرح إذا ما قيل له إن الكتب على منضدته منظمة؟ فلماذا إذن يأخذنا الإشفاق من فيلسوف يقول عن الكون إنه منظم، وإنه لا بد لهذا النظام من قوة منظمة؟
لكن هذا السائل المتعجب سرعان ما يدرك مدى الغموض في معنى كلمة كهذه يرسلها الناس إرسالا ولا يكون لذلك كبير خطر لأنهم لا يرتبون عليها النتائج الخطيرة، ثم يلقفها منهم الفلاسفة الموقرون فيستخدمونها هم أيضا كما يستخدمها سواد الناس على غموضها وانبهام معناها، لكن الأمر عندئذ يكون جد خطير؛ لأنهم يجعلونها مبدأ كونيا يستدلون منه ما وسعتهم البراعة المنطقية أن يستدلوه. ونحن مع علمنا بأننا من حيث نحن فلاسفة لا شأن لنا بما عسى أن يقوله العلماء في تحديد أمثال هذه المدركات، لكننا مع ذلك نقدم للقارئ لمحة للطرائق التي يمكن أن تترجم بها مدركات «النظام» و«الحياة» و«النفس» وغيرها من أمثالها، إلى لغة الكم التي تجعلها مدركات علمية موضوعية.
خذ مجموعة من ورق اللعب حالة كونها «منظمة» الأوراق بحيث تجتمع الورقات ذوات اللون الأحمر كلها معا، والورقات ذوات اللون الأسود كلها معا، ثم امزج هذه المجموعة بعضها في بعض، تأخذ الحمراوات والسوداوات في الامتزاج ، فها هنا تراك تصف الحالة الأولى بأنها على «نظام» والحالات التي تنشأ بعد ذلك بأنها حالات يقل فيها «النظام» أو يزيد بمقدار قربها أو بعدها عن الحالة الأولى ؛ فماذا في الحالة الأولى مما يجيز لك أن تصفها بما قد وصفتها به، بحيث إذا ما زال، زال «النظام» تبعا لذلك؟ فكر في الأمر ما شئت، تجد أن الحالة التي تكون فيها الورقات الحمراوات كلها مجتمعة معا، والسوداوات كلها مجتمعة معا، إن هي في الحقيقة إلا أحد الأوضاع الممكنة لمجموعة الورق؛ فهنالك ملايين الحالات التي يمكن أن يرتب عليها الورق، وهذه الحالة المشار إليها واحدة منها. ولو أخذت في «تفنيط» الورق آلاف المرات بعد آلافها، فيجوز أن تصادف الحالة «المنظمة» الأولى عفوا؛ أي إنه يجوز أن يعود الورق إلى ترتيبه الأول مصادفة، فليس ذلك مستحيلا وإن يكن بعيد الاحتمال، وبعد احتماله ناشئ من أنه حالة من ملايين الحالات. وسؤالنا هو: ما الذي يجعل هذه الحالة موسومة عندنا ب «النظام»؛ هذا «النظام» ما معناه؟
يقول أناتول رابورت:
16
صفحة غير معروفة