وأجل ما كان من تلك الخطابة روح التواضع التي عمت أجزاءها، وفاضت في تضاعيفها، فلم يستخدم الأساليب الفردية فيما يقول، ولم يتكلم بروح الأنانية فيما بسط من المعاني، وشرح من الأغراض، ولم يستفرد بالعمل فيستفرد بالبيان، ولم يغمط حق أفراد وزارته ليكسب هو الحق في إعجاب الأمة به كاملا، ولم يفرط في روح التضامن، ولم يشذ عن مبدأ التعاون، ولم يجعل نفسه الطوال العظيم، وزملاءه بجانبه الأقزام الصغار، الأغمار المجاهيل، بل استمسك في كل خطابته بصيغة الجمع، وبحق زملائه معه، ولم يمض في شأنه أنانيا متكبرا، ويثير الغيرة منه في نفوس أصدقائه كما فعل الزعماء في الثورة الفرنسية من قبل، فاحتكروا المديح لهم، وقبضوا بكلتا يديهم على المديح بمفردهم؛ فانفض عنهم الكثيرون من زملائهم، وتململ الباقون من صحابتهم إذ رأوا أنفسهم حواشي وذيولا، ووجدوا أسماءهم منزوية في ركن صدئة، وأسماء أولئك بريقة لامعة، مصقولة ذات طلاء ورواء.
وقد اضطلع الوزير في خطبته تلك بعبء المسؤولية، وارتضى أن يكون وحده مسؤولا عن عمل الحكومة وشؤونها، ولم يتحلل من اللائمة، ولم يخلص بنفسه وبوزارته نجيا من الجزيرة، بل نهض مستبسلا لا يخشى تأنيبا، وهو يدرك أنه على الحق، ولا يشفق من عتب، ولا إنكار وسخط ما دام الخير فيما يفعل، والنية البيضاء وراء ما يحدث، وإنها لجرأة عظيمة لا تكون إلا لعظيم يحتملها، وينهد لها، ويرضى أن تصدر عنه، وتنبعث منه، والجرأة صفة أولى في العظماء، ولازمة من لوازم المتصدي لقيادة الشعب المتربع في دست الحكم، وماذا كان هذا الوزير ليخشى من وقعه، أو يفرق واعدا من نتيجته، وهو لا يريد أن يدس على الأمة في الظلام، ويحتال الحيل على خديعتها، وذر الرماد في عينها ، وإنما اتصل بسبب من الحق، وأدرك خير الأمة في ناحية، وتبين له السبيل السوي؛ فسكن إلى خطبته، واطمأن إلى عقيدته، وسعى سعيه، ونشط نشاطه، وكان من كل هذا ما رأينا، وما علمنا.
ولو أن رجلا آخر منا في مكانه لما جسر أن يقول أنا المسؤول، ولما طاوعته نفسه على التصدي لحمل هذا العبء؛ لأن الناس في مصرنا يرعشون خشية من هذه اللفظة الكريهة إليهم، وهي «المسؤولية»، وترجف أفئدتهم من وقعها ونتائجها، ولم نر وزيرا من وزرائنا السابقين في موقف من مواقفه نهض على أسماع الأمة يقول ما قال صاحب الترجمة في تلك الخطبة، بل لقد اعتدنا أن نرى وزراءنا يرمون المسؤولية عن أكتافهم، ويتهربون من إسنادها إليهم، أو أخذهم بكلماتها، بل ما فتئوا كلما عاتبتهم الأمة، وأنكرت عليهم عملا من أعمالهم، وسخطت على شأن من شؤون وزاراتهم يتشكون من الإنكليز، ويحيلون الذنب إليهم، ويرجعون اللائمة عليهم، ويقولون في عرض أحاديثهم الأسيفة برنة الألم والندامة، والحسرة واللهفة: ماذا لعمركم نفعل، ونحن سليبو الإرادة، مكتوفو الأيدي، لا نستطيع شيئا، ولا نجد لدينا استقلالا للعمل، وحرية في التفكير والسعي؟ إنكم أيها اللائمون إنما تتكلمون على هواكم؛ لأنكم لم تقعوا تحت تلك الإرادة، ولم تجربوا ما جربنا، ولم تعانوا ما عانينا، إنما تلك مقاعد نعتقدها، وكراسي ينبغي أن تملأ فحللنا في فراغها، وليس لنا من مناصبنا هذه إلا المرتب؛ لأننا مثلكم أصحاب «عيال»، وإلا لقب «المعالي»، وإن «سفلنا» في نظركم، وإلا الأبهة الفارغة الجوفاء ما دمنا لا نستطيع أن ننعم بالملأى الحقيقية الصادقة.
ولقد كان هذا نجاء الوزراء لصحابتهم، أو أهل سرهم، وندمائهم على الشراب، والمتمكنين من ودهم وصداقتهم، وكانت تلك الكلمات نعرفها عنهم، ونتخيلها طالعة من أفواههم.
ولكن مثل هذا الوزير الذي نترجم له الآن أشد الناس ثورة على السكون والتطامن لو أنه أريد على أن يجلس في كرسيه جامد الحركة، وأن يروح في يد الإنكليز أداة يحركونها هم كيف شاءت لهم السياسة، واقتضت مطالب الحكم؛ لأنه يأنف أن يذل لغيره، ويخفض رأسه لسواه ، فإذا أعطي عملا، فإما أن يترك له ليعمله، وإما رفضه وخرج بنفسه من معرة العجز، والتواكل، والرضى باسمه، تذيل به القوانين، وتمهر به الشرائع، وتختم به المراسيم والأنظمة دون أن يكون هو الذي اشترعها، ودون أن يضع يدا في وضعها، ولم يتول يوما في حياته الحكومية عملا وقنع منه بالوظيفة، ورضي منه بالاسم واللقب؛ لأن في أعماق نفسه إحساسا جياشا يغريه بالحركة والعمل، وعاطفة متقدة لا تربطه بالكرسي الذي يشغله، ولا تقيده إلى المنصب الذي يقلده، ولو مضى عليه يوم واحد من غير عمل يتناوله، أو تفكير ينكمش إليه، أو كتاب يقرأه، أو قطعة يكتبها لكان ذلك عنده أشد أنواع المرض، ولاحترق جثمانه من أثر حرارة روحه، والنار المشبوبة في فؤاده، وإذا تخلى رأس الوزراء، وأول رجل في الحكومة عن المسؤولية عن عمله، كان خليقا بأحقر رجل فيها، وبالشرطي الواقف في الطريق أن يتهاون في عمله، ويتحلل هو أيضا من مسؤولية حراسته وواجبه، وإذا حدث هذا في حكومة من الحكومات خرجت ولا ريب عن معنى الحكومة، وكان أولى بنا أن نسمها بطابع الفوضى، ونحشرها في الموتى، وقد رفع هذا الوزير عن أمته علم الحماية، وذلة الوصاية، وكان مسؤولا عن مهمته تلك فأداها على وجهها، ولم يكن يخشى بعد ذلك من مسؤولية إتمام ما بعدها، واستكمال أساليب الحكم الدستوري التي لا غناء بعد تلك الحماية عنها، ولقد وقعت بعد ذلك أحداث كبار، وحدثت غيلات لكبار البريطان وأخطار، وغضبت حكومة الإنجليز، وحق لها أن تغضب، وعتبت على وزارة هذا الوزير، ولفتت أنظارها إلى هذه الدناءة التي تغتال الناس وهم أبرياء، وتشوه جمال هذه الحركة، وتفسد عليها فضيلتها؛ لأننا لا نريد وطنية قاتلة، ذباحة ساقطة الروح، دنيئة تقتل ثم تعدو طالبة الفرار، مختبئة في الأزقة؛ لأن الوطنية الصحيحة لا تختبئ وإن قتلت، ولا تكمن في جحر مظلم، أو عش بعيد مجهول، وإن افترست لأنها وطنية لا تخشى الموت، والوطني الصادق المستبسل يموت والابتسامة على شفتيه، ويلاقي المنون ضاحك النواجذ، والغيلة دناءة، وإن أسماها المجانين مذهوبو الرشد جرأة، وراحت لديهم خليقة بالمديح، مثيرة فيهم الإعجاب؛ لأن هؤلاء الذين ماتوا وقضوا نحبهم ماتوا ودماؤهم باردة؛ لأنهم أخذوا على غرة، ولم يدافعوا عن أنفسهم، والرجل الباسل النبيل الروح يأنف أن يموت عدوه بارد الدم في هدوئه الطبيعي، وغفلة خواطره، والرجل الذي يموت منهم يرتحل عن الحياة مستشهدا؛ لأنه مات وهو يعمل لوطنه بالحق كان وبالباطل، والقاتل من صفوفنا خائن في حق وطنه، أثيم شنيع في أمته، فنحن بآثامنا هذه إنما نمهد لرجالهم سبيلا للشهادة، ونسجل على أمتنا كلها الخيانة، والجبانة بكل ألوانها.
وإذا كنا قد رأينا الإنكليز قد غضبوا لتلك الأحداث الرهيبة، وشهدنا نائب ملكهم في كتابه إلى صاحب هذه الترجمة مهددا منذرا، يحمل هذه الوزارة مسؤولية هذه الحوادث، وجريرتها، فقد وجدنا هذا الوزير ثابت الجأش، لا يفر في رسالته إلى نائب ذلك الملك من حمل مسؤولية الأمة بأسرها، ولا يتململ، ولا يتزعزع عن مكانه، ولا ينخلع فؤاده حيال التهديد، والنذر التي جاءته، بل أحسن في رده، وأخذ بالحزم والبسالة فيما كتب، وكذلك ارتكب رجل ذو لوثة جرمه الشنيع، وضرب الأمة في مقاتلها، وهو يحسبه محسنا صنعا، مجديا على وطنه، فلم يكن من رئيس الوزارة الجريء الباسل الثبت المقدام إلا أن حمل جرمه، ورفع للأمة كرامتها، وأجمع نيته إلا أن يأخذ بأشد ألوان القصاص، وينفذ أقسى ضروب العقوبة، وقد فرح الذين عمت بصائرهم عن رؤية الحق بذلك الحادث، لا في وقعه، ولا في مقدار ما أثار من الغضب، وأحدث من السخط لدى الذين قتل الرجل من صفوفهم، بل حسبوها ناهزة نهزت لتبعث الوزارة على الخوف من أمرها، والخشية والرعدة من عواقبها على مكانتها، وظنوها حادثا مغريا بالفرقة والتنافر بين الوزير والإنكليز، الذين اقتسرهم اقتسارا على استقلال البلاد، والتسليم بحريتها، وحقها الأبدي، ورفع حمايتهم المهينة المؤلمة عن أفقها، وما نعلم أن في دور المخلوطين في عقولهم قوما تقع لهم أمثال هذه الفكرة الطائشة الهاذية المحمومة، ولكن لهؤلاء المجانين الأحداث الأغرار جنونا مبتكرا طريفا، ليس على مثال ما في سجلات المجاذيب من مدهشات، فإن هذا الوزير قد قام بفرائض منصبه غير مستأن، ولا مستخف، وقد وقعت أمثال هذه الأحداث في الوزارات التي قبله، وهو لم يجلس مجلسه إرضاء للإنكليز حتى يتركه ترضية لهم، ولم يكن في مكانه ذاك بوحيهم قبل أن يكون يوحي ضميره، ومنبعثا وراء وجدانه، وما كان مثل هذا الوزير في نبل روحه، وفيض عاطفته ليترك مكانه؛ لأن بضعة أشخاص من المعارضين، ونفر من الخصوم، قالوا له: قم عن مكانك، واترك مجلسك، ولقد انهزموا أمامه، وهزمتهم الأمة حياله، فلم تسمع لهم؛ ولم تعرف لهم مكانة بينها، وليسوا ممثلين لرأيها، ولا غطاريف في أهلها، ولا سادة الرأي إذا الرأي سؤل، ولا قادة الأذهان إذا طلب وحي الأذهان، وكيف يصح للمنتصر أن يدع مكانه للمنهزمين، ويترك الحومة للهاربين، ويعلن هزيمته وهو قد أمسك بالنصر في يده، وبعلم الفوز يلوح به فوق رأسه، ولو أنه فعل فنزل على أمر هؤلاء، ورضي أن يسمع لهم، وتخلى عن المنصب لشهوة أنفسهم، وفر من الواجب الذي في عنقه لراح خائنا لبلاده، مستهزئا بحقوق أمته، ضعيف الحيلة في خدمة مبادئه، ولا نعرف شيئا من هذا يصح أن ينسب إلى صاحب الترجمة، أو يشتم من خلقه، ولقد وقف في مواطن أشد إحراجا من هذه فسرب منها، وشق غبارها، ولم يستطع شيء أن يترك أثرا في همته، وعظمة نفسه للعمل، وإخلاصه إلى رأيه، ودأبه على فكرته.
وإذا كان هذا هكذا فلا غرو أن يقول صاحب الترجمة في خطبته: «إننا لم ننتظر إنفاذ النظام البرلماني حتى نأخذ المسؤولية على عاتقنا، بل نحن قد أخذناها على عاتقنا من أول لحظة، وأصبحت إدارة شؤون البلاد في يدنا بتمام الحرية، فلم يبق للمستشارين هذا الأثر الذي كلكم كنتم تعرفونه، وتحسون به، وأصبحت كلمتهم لا تخرج عن حد المشورة.» «والخلاصة في هذا الباب: أن مصر الآن من الوجهة الداخلية أصبحت أمورها بيد أبنائها، وأنها ستصبح في القريب العاجل ذات نظام دستوري على أحدث النظم العصرية».
ولا تزال كلمة الإخلاص التي قالها في تلك الخطبة في أذهاننا، تلك الكلمة الكبرى المستفيضة صدقا، وعاطفة، وضؤولة أمام عظمة القدر، وفناء الفرد بجانب خلود الشعب، إذ يقول: لقد نسوا أو تناسوا أيها السادة أننا أشخاص زائلون، وأننا لن نبقى متربعين في دست الأحكام إلا برهة من الزمن، ثم نخلي السبيل لغيرنا، أما النظام الدستوري فهو نظام ثابت دائم ...!
نعم، تلك نفثة رجل صادق يدرك أن الحياة لا تستحق أن تعاش إذا لم يكن الإنسان قوة خالدة تفتدي نفسها في سبيل خير غيرها، وأن المرء وإن عمر في هذه العاجلة فما هو بمغنيه في حكم التاريخ أن يعمر، ولقد راعنا من هذه الكلمة المؤثرة الجياشة الحزينة الرنين، الأليمة الوقع ما انطوى تحتها من رنة الإخلاص، وروح الصدق، وبلاغة التعبير، وجلال الوفاء، ولم يكن الوزير من الشعراء حتى يقال تلك أكذوبة جميلة من أكاذيب القصيد، ولم يكن في موقف من مواقف الشاعرية حتى تستهويه وترسله، يتدفق في ألفاظ طلية ضئيلة المعنى، وإنما كان في ذلك الموطن رجلا سياسيا، وعاملا خطيرا في بناء هذه الأمة، ورأى بعض الخصوم يكذبون عليه، وعلى أمتهم، ويتقولون الأقاويل الخاسرة الواهية الظنينة في نفسها المتجنية، ويرمون الوزارة بما هي منه بريئة الكف، نقية الروح، ويدسون عند الأمة عليها أنها ستتعرض لحرية الانتخابات، وأن دار الندوة ستكون عند منال يدها، ولعبة في كفها.
ولقد أحسن الوزير في رفع تلك الفرية؛ لأن الوزير لم يطعن بها بمثل ما طعنت الأمة، وأهينت، وسخر منها، وشهر بها عند أمم الغرب.
صفحة غير معروفة