وفي الجملة فهو عُذر لا بأس به.
وروى لي بعضُ مشايخِنا، يرفَعه الى أبي سعيد السيرافي قال: حضرتُ في مجلس أبي بكر بن دُرَيد، ولم أكن قبلَ ذلك رأيتُه، فجلست في ذيل المجلس، فأنشد أحد الحاضرين بيتَين يُعزَوان الى آدم ﵇ لما قتلَ ابنُه قابيل أخاه هابيل وهما:
تغيّرتِ البلادُ ومَنْ عليها ... فوجهُ الأرضِ مُغْبَرٌّ قبيحُ
تغيّر كل ذي حُسْنٍ وطيبٍ ... وقَلّ بشاشةُ الوجهِ المليحُ
فقال أبو بكر: هذا شعرٌ قد قيل في صدْر الدنيا وجاء فيه الإقواء، فقلت: إنّ له وجهًا يُخرجه من الإقواء. فقال: ما هو؟ فقلت: حذفُ التنوين من بشاشة لالتقاء الساكنين ونصبُها على التفسير، ورفعُ الوجه بإسناد قَلّ إليه. ولو حُرِّك التنوين لالتقاء الساكنين لكان: وقلَّ بشاشةً الوجهُ المليحُ. فقال لما سمع هذا: ارتفعْ، فرفعَني حتى أقعدَني الى جنبه.
ومما لا يجوز للمولّدين استعمالُه، ولا وردَ لأحد رخصةٌ في مثلِه: الإكفاء، وهو اختلاف حرفِ الرّوي، ومثال ذلك قول الراجز:
بُنَيّ إن البِرَّ شيءٌ هيِّنُ ... المَنْطِقُ الطَيِّبُ والطُعَيِّمُ
وقول آخر:
إنْ يأتِني لصٌّ فإنّي لصُّ ... أطلسُ مثل الذِئبِ إذْ يعْتَسُّ
سَوْقي حُدائي وصفيري النّسُّ
ومما لا يجوز للمولد استعماله الإيطاء: وهو أن يُقفّي الشاعرُ بكلمة في بيت ثم يأتي بها في بيت آخر يكون قريبًا من الأول، فإن تباعدَ ما بين البيتَيْن بما قَدْرُه عشْرةُ أبيات فصاعدًا، كان الذّنْبُ مغفورًا، والعيبُ مستورًا، وانتقل من المحظور الى الكراهية فإن كان إحدى القافيتين معرفَةً والأخرى نكرة فقد زالت الكراهية وكان الى الجواز أقرب من الامتناع وقد أوطأتِ العربُ كثيرًا. قال النابغة الذبياني:
أو أضعُ البيتَ في خَرساءَ مُظلمةٍ ... تُقيِّدُ العَيْرَ لا يَسْري بها الساري
ثم قال بعد أبياتٍ يسيرة:
لا يخفِضُ الرِّزَّ عن أرضٍ ألمّ بها ... ولا يضِلُّ على مِصْباحِه السّاري
وقال ابن مُقبِل:
أو كاهتزاز رُدَيْنيٍّ تداولهُ ... أيْدي التِّجارِ فزادوا مَتْنَه لِينا
ثم قال بعد أبيات:
نازَعْتُ ألبابَها لبّي بمقتَصَر ... من الأحاديثِ حتى زِدنَني لينا
ومما لا يجوز للمولد استعماله السّناد: وهو اختلاف كل حركة قبل حرف الرويّ، كقول عمرو بن الأهتم التغلبي:
ألم تَرَ أنّ تغلِبَ أهْلُ عِزٍّ ... جِبالُ معاقلٍ ما يُرْتَقَيْنا
شرِبْنا من دماءِ بني سُلَيْمٍ ... بأطرافِ القَنا حتى رَوينا
ففتحةُ القاف وكسرةُ الواو سِناد لا يجوز، لأنّ أحدَ الحَذوَين يتابع الرِدْفَ والآخر يخالفُه. وقد أجاز الخليلُ الضمةَ مع الكسرة ومنع من الضمة مع الفتحة، فإن كان مع الفتحة ضمّة أو كسْرةٌ فهو سِناد. فأم الذي جوّزه فكقول طرَفة:
أرّقَ العينَ خيالٌ لم يَقِرْ ... عافَ والرَّكبُ بصحراءَ يُسُرْ
فهذه ضمّة مع كسرة وهو جيد. وأما الذي منع منه وذكر أنه سنادٌ فكقول رؤبة:
وقاتِمِ الأعماقِ خاوي المُخْتَرَقْ
ثم قال:
ألّفَ شتّى ليس بالراعي الحَمِقْ
فجمع بين الفتحة والكسرة.
ثم قال:
مَضْبورةٍ قرواءَ هِرجابٍ فُنُقْ
فأتى بالضمة مع الفتحة والكسرة، وهو سِناد قبيح لا يجوز استعمالُ مثلِه، ومثلُه في القبح والجمع بين الكسرة والفتحة والضمة وقول الأعشى:
غَزاتُكَ بالخيلِ أرضَ العَدْ ... وِ فاليومَ من غَزْوَةٍ لم تَخِمْ
وجيشُهُم ينظرونَ الصبا ... حَ وجذعانُها كلفيظِ العَجَمْ
قعودًا بما كان من لأْمَةٍ ... وهُنّ قِيامٌ يلُكْنَ اللُّجُمّ
وحكى أبو عمر الجَرْمي أنّ الأخفش لم يكن يرى ذلك سِنادًا ويقول: قد كثُر مجيء ذلك من فصحاء العرب. والمعوّلُ على ما قاله الخليل لا غير. وأجاز الخليل مجيءَ الياء مع الواو في مثل مَشيبٍ وخطوب، وأميرٍ ووعورٍ، فإن أردفْتَ بيتًا وتركتَ آخر فهو سِناد وعيب لا يُنسَجُ على منوالِه كقول الشاعر:
إذا كنتَ في حاجةٍ مُرسِلًا ... فأرسِلْ حكيمًا ولا توصِه
1 / 43