عبد الله بن حسين السويدي البغدادي
عبد الله بن حسين السويدي البغدادي، ولد في بغداد سنة ١١٠٤ هـ / ١٦٩٢ م.
حيث تلقوا -وعبد الله بينهم- مبادئ العلوم الدينية على يد الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمود من أهل ما وراء النهر، فختموا عنده القرآن الكريم، وتلقوا عليه رسالة في التجويد، وتعلموا الكتابة.
وبعد الفراغ من تلقي مبادئ المعرفة، انتقلوا- وعبد الله بينهم- إلى المرحلة التالية، فشرعوا بتعلم الخط، على قواعده، وأصوله وفنونه، وثابر عبد الله على إتقان ضروبه، والتمهر فيه، على الرغم من ضيق وأحوال أسرته المادية آنذاك.
فما فيها من شيخ وعالم إلّا والتقى به وأخذ عنه، فضلا عن أن ثمة علوما لم يجد بين البغداديين في أيامه، من تخصص بها أصلا، وهكذا فقد استجمع أمره على الرحلة إلى الموصل لمواصلة دراسته على علمائها، كان عمره إذ ذاك قد تجاوز الثالثة والعشرين.
وفي سنة ١١٢٧ هـ / ١٧١٦ م سافر عبد الله إلى مدينة الموصل بهدف «تحصيل علم الحكمة والهيئة»، ولكنه، ما إن وصلها، والتقى بشيوخها، حتى أخذ بإكمال سائر ما درسه من علوم أخرى وهو في بغداد، مثل النحو وعلوم العربية، والعلوم الشرعية والعقلية، كما درس الهيئة (الفلك) وتلقى الحديث الشريف على المشايخ، وقراءة القرآن وتجويده.
عودته إلى بغداد بين عامي ١١٢٨ و١١٢٩ هـ / ١٧١٨- ١٧١٧ م.
استقراره الاجتماعي
عاد عبد الله إلى بغداد وقد حصل من العلم ما لم ينله غيره من معاصريه، فطار صيته، واشتهر أمره، ونال في هذه المرحلة من حياته لقبه الشهير (السويدي)
إذ تولى التدريس في مدرسة جامع الإمام أبي حنيفة النعمان، فكان ثاني من درّس فيها بعد إعادة افتتاحها في منتصف القرن الثاني عشر الهجري (١٨ م)، كما تولى التدريس أيضا في المدرسة المرجانية التي سبق أن تلقى العلم فيها أيام الطلب وغادر بغداد في رحلة طويلة- بحسب مراحل طرق ذلك العصر- إلى مكة المكرمة زار خلالها العديد من المدن والقرى، والتقى في أثناء ذلك بالكثير من العلماء والأدباء والمشايخ، وهي التي جمع أخبارها في كتابه الذي عنونه (النفحة المسكية في الرحلة المكية) .
طارت شهرة السويدي وانتشر صيته بما حققه من مجد علمي، وما صنفه من مؤلفات تلقفتها أيدي الطلبة، وما رنّت بصوته المنابر وحلقات الدرس، فضلا عما حصل عليه من إجازات العلماء خارج العراق واقترن باسمه من توفيق في المهمة التي كلفه بها والي بغداد سنة ١١٥٦ هـ / ١٧٤٣ م، فقصده الطلاب من كل حدب وصوب، آخذين عنه العلم،
وبعد عمر ناهز السبعين سنة قمرية، توفي الشيخ عبد الله السويدي في ضحوة يوم السبت الحادي عشر من شوال سنة ١١٧٤ هـ.
آثاره
وضع السويدي عددا من الكتب والرسائل في المجالات العلمية منها: شرح صحيح البخاري، أنفع الوسائل في شرح الدلائل، رسائل تتناول عددًا من المسائل العقائدية والفقهية، رسائل أخرى في الردود، رشف الضرب في شرح لامية العرب، إتحاف الحبيب على شرح مغني اللبيب، مقامة الأمثال السائرة، الجمانات في الاستعارات، فضال أهل بدر، النفحة المسكية في الرحلة المكية وغيرها.
صفحة غير معروفة
المؤلف وكتابه
الفصل الأول سيرته
أسرته:
منذ عهود غابرة لا يعلم مبتدأها، نشأت على كهف ذي صخور وحجارة في ضفة دجلة اليسرى، قرية صغيرة عرفت بالدور، وسرعان ما زهت هذه القرية وازدهرت بمن سكنها من قبائل العرب، حتى عرفت بدور عربايي، أو دور العرب، تمييزا لها عن قرى أخرى كانت تحمل اسم الدور أيضا. «١» وشهدت البلدة ذروة عزها في الحقبة التي انتقلت فيها الخلافة العباسية إلى سرّ من رأى، حيث لم تبعد هذه الحاضرة الفخمة عنها غير ثلاثين كيلومترا أو أقل، وبنمو سرّ من رأى واتساعها الهائل، أضحت (الدور) معدودة ضمن ضواحيها، وكثيرا ما ورد اسمها، في أخبار القرن الثالث الهجري (٩ م) بوصفها جزءا من معالم الحاضرة نفسها «٢» وعرفت يومذاك ب (دور سرّ من رأى) .
ونبغ فيها، في القرون التالية، عدد من أهل العلم والحديث، الذين لقوا من أهلها العناية والرعاية، واسترعى وجود هذه الحركة العلمية فيها اهتمام بعض أمراء الدولة، فأنشأ أحدهم مدرسة علمية فخمة ومسجدا عند ضريح الإمام محمد الدوري، الذي يظن أنه محمد بن موسى بن جعفر «وكان شيخا ظريفا يتعاهد الصوفية وأصحاب الحديث» وتوفي بعد سنة ٣٠٠ بقليل. «٣» وما تزال بقايا هذه المدرسة العلمية موجودة حتى اليوم، تذكّر الناس بما كان
1 / 5
للبلدة من شأن علمي خطير في تلك العهود. «١» ولم تعدم البلدة، حتى في عهود التأخر التي رانت على البلاد، تميزها برعاية الحركة العلمية، فوردت إشارات مهمة إلى وجود «جوامع قديمة» و«معاهد علمية» «٢» فيها، حتى عرفها بعضهم «بقرية العلماء» . «٣»
إلّا أن ظروفا متنوعة قاسية أدّت إلى أن تفقد البلدة رونقها وعزّها، فأخذ بعض أسرها بالنزوح عنها إلى بغداد. ويذكر عبد الرحمن حلمي، وهو مؤرخ بغدادي دوري الأصل، إن من تلك الظروف «تحول النهر عنها، وبقاء أراضيهم لا يصعدها الماء غير صالحة للزرع والحراثة» . كما يذكر أنّ ما دعا أهلها إلى هجرها «ما لحقها أيضا من مظالم الحكام» فضلا عن غارات العشائر عليها وعلى ما يليها، إلى حد أنه «لم تبق حرفة لمحترف» «٤»، ولا يحدّد هذا المؤرخ، الذي وضع تاريخه في أواخر القرن الثالث عشر الهجري (١٩ م) زمن حدوث تلك الهجرة، ومن الراجح عندنا أنها بدأت بالحدوث منذ أوائل القرن التاسع الهجري (١٥ م) واستمرت حتى القرن الثاني عشر (١٨ م) . ويفهم مما ذكره الرحّالة الفرنسي تافرنييه الذي مرّ بالبلدة في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، أنها لم تكن في أيامه إلا «مزارا» يؤمه الناس لزيارة ضريح دفينها الإمام محمد الدوري من أجل الدعاء والنذور» . «٥»
1 / 6
وفي بغداد اختار الدوريون النازحون إليها الإقامة في أقصى جانبها الغربي، بين علاوي الحلة وسوق العجمي «١» مؤلفين هناك محلة صغيرة نسبت إليهم «٢» وتدريجيا، أمست هذه المحلة موئلا لكلّ أسرة دورية آثرت أن تقيم في بغداد على مدى القرون الثلاثة الأخيرة.
وكانت من الأسر العريقة في بلدة الدور، أسرة نبيلة تنتمي إلى السلالة العباسية، ولذا فقد اشتهرت بآل الخليفة «٣» ثم عرفت بآل مدلل، نسبة إلى جد لها يدعى محمد بن الحسين، ويعرف بالمدلل، وهو لقب يدل على ما كانت عليه الأسرة في أيامه من عزّ وتقدير.
وعلى الرغم من عدم معرفتنا بتاريخ الأسرة في هذه الحقبة إلا أنّنا نرجح أن يكون محمد المدلّل هذا قد عاش في أواخر القرن الثامن الهجري (١٤ م)، ولا نعلم ما إذا كان هو أول من أقام في (الدور) أم أن أسرته كانت موجودة فيها منذ عهد سابق وأن تلقب الأسرة كلها- فيما بعد- بلقبه (المدلّل) وربما رجح الرأي الأول، والله أعلم.
وعلى أية حال، فقد أنجب محمد ولدا سماه أحمد أو حمد. وأنجب الأخير ولدا دعاه علي، على اسم أبي جده، وكان لعلي ولد سماه حسينا، على اسم أبي جده أيضا، ويظهر أنه عاش في النصف الأول من القرن العاشر الهجري (٦ م)، وولد لحسين ولد دعاه بناصر الدين، «٤» ولأمر ما، ربما اتصل بما ذكرناه من تدني الأحوال المعيشية والزمنية في (الدور)، غادر ناصر الدين هذا موطن آبائه وأجداده في أواخر القرن المذكور، ميمما شطر مدينة
1 / 7
السلام بغداد. وكان أول ما فعله فيها، أن وثّق لدى نقيب أشرافها نسب أسرته، فكان على النحو الآتي:
ناصر الدين بن الحسين بن علي بن حمد بن محمد المدلل بن الحسين بن علي بن عبد الله ابن الحسين بن علي أبي بكر بن الفضل بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن اسحاق ابن جعفر بن أحمد بن الموفق طلحة بن جعفر بن محمد بن الرشيد بن محمد بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي القرشي. «١»
وقد صادق النقيب والقاضي والمفتي وسائر العلماء على صحة هذا النسب ووضعوا تواقيعهم عليه، وبذلك أيضا وضعوا بداية مرحلة جديدة لتاريخ هذه الأسرة.
أقام ناصر الدين هذا في الكرخ ببغداد، مما دل على وجود محلة الدوريين في هذا الجانب منذ ذلك الحين على الأقل، وولد له فيها ولد ذكر سماه مرعي، فولد لهذا بدوره حسين، وقد عرف الأخير ب (الملا) مما دل على أنه كان يعمل بمهنة تعليمية دينية، ويظهر أنه حاز، وراثة أو اكتسابا، ثروة لا بأس بها، لكنه أنفقها كلها على مستلزمات مركزه الاجتماعي بوصفه رئيس عشيرته ومقدمها. يقول عبد الله السويدي «أما أبي حسين فكان من الأخيار الأجواد، ذا عقل رصين وشجاعة وبراعة، كبير قومه وعشيرته، يرجع أمرهم إليه.. وكان ذا مال غزير صرفه كله على الفقراء والضيوف والضعاف حتى افتقر آخر عمره، فكان يبيع من متاع البيت ويصرفه على الفقراء والضعاف حتى مات مدينا» . «٢»
1 / 8
وتزوج حسين من امرأة من أسرة علمية أيضا، كانت تتولى المشيخة والخدمة في جامع الشيخ معروف الكرخي، القريب من محلة الدوريين، وقد اشتهر منهم الملّا أحمد بن سويد أخو زوجته المذكورة، الذي كان يتولى أوقاف جامع الشيخ معروف الكرخي.
طفولته وصباه:
وفي إحدى ليالي سنة ١١٠٤ هـ/ ١٦٩٢ م، ولد للملّا حسين طفل ذكر سموه مرتضى، وكانت تسميته هذه بسبب وفاة وليد سابق عليه، وما لبث شبح الموت أن داهم مرتضى أيضا، فمرض وهو ما زال رضيعا بعد، واشتد مرضه حتى بات «عظاما في جراب»، «١» وصادف أن رأته إحدى نساء الجيران وهو على تلك الحال، فشبهته ببعض من تعرفه من مجاوريهم، وكان نحيفا في غاية النحافة، يدعى (عبد الله) فلم يكن إلا أن ذاع هذا التشبيه، ولأمر اختاره الله، عرف الطفل بهذا الاسم، ونسي اسمه السابق مرتضى، وسرعان ما اقتنعت الأسرة بمزايا الاسم الجديد «وذلك لأن الله تعالى خاطب نبيه ﷺ في أشرف المقامات بالعبد فقال في مقام الوحي، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ...
. «٢»
ولم يلبث الطفل أن رزيء- وهو ما يزال في الخامسة من عمره- بوفاة أبيه، تاركا وراءه أطفاله الصغار، عبد الله ومرعي وموسى، وحليمة، وديونا لم يكن قد وفّاها لأصحابها، فاضطرت الأم إلى أن تعيل أسرتها وحدها، متحملة من المشاق أشدها، وكانت تنفق عليهم من بيع ما تقوم بغزله من قطن، ولم يكن ما تحصل عليه بكاف لسد حاجات الصغار الذي باتوا- على ما يذكر السويدي- «لحما على وضم، لا حال ولا مال» . وشاء سوء حظ الأسرة، أن يكون الخال أحمد بن سويد الصوفي، غائبا آنذاك في رحلة له إلى
1 / 9
القسطنطنية، فقضت- من ثم- أياما عصيبة- وربما شهورا- حتى عاد الخال من رحلته، ليجد أولاد أخته وهم «على آخر رمق» «١» فكفلهم وربّاهم وتعهدهم برعايته.
ولأنه كان مثقفا بحسب ثقافة ذلك العصر، ويعمل في إدارة أحد المرافق الدينية المهمة في المدينة، ويكسب رزقه من أوقافه، فإنّه أدرك ألا سبيل لأن يفوز من يرعاهم بتقدير المجتمع، وأن يضمنوا- بذلك- مستقبلهم، إلا بالاتجاه إلى طلب العلم، ومن هنا فقد أرسلهم إلى الكتّاب، حيث تلقوا- وعبد الله بينهم- مبادئ العلوم الدينية على يد الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمود من أهل ما وراء النهر، فختموا عنده القرآن الكريم، وتلقوا عليه رسالة في التجويد، وتعلموا الكتابة.
ويتضح لنا مدى الأثر الذي تركه هذا الشيخ على الطفل عبد الله، مما أغدقه عليه من صفات، وما استنزله عليه من رحمات، إذ قال «شيخنا الصالح الناسك الورع التقي العالم..
﵀ رحمة واسعة في الدين والدنيا» .
وبعد الفراغ من تلقي مبادئ المعرفة، انتقلوا- وعبد الله بينهم- إلى المرحلة التالية، فشرعوا بتعلم الخط، على قواعده، وأصوله وفنونه، وثابر عبد الله على إتقان ضروبه، والتمهر فيه، على الرغم من ضيق وأحوال أسرته المادية آنذاك، يقول «إلى أن بقيت أسوّد مشقي على ضوء القمر» وما ذاك إلا لأنه عدم ضوء المصباح، ولعدم قدرته على دفع ثمن وقوده، ويظهر أن الظروف المعيشية للأسرة، هي التي دفعتها، في هذه المرحلة، إلى الاكتفاء بما نهله أبناؤها من أسباب المعرفة، فاشتغلوا بأعمال تزيد من دخل الأسرة وتخفف عن كاهل الأم وأخيها مؤونة الحياة وأعباءها.
متاعب الدرس:
بيد أن رغبة عبد الله في مواضلة التعليم لم تكن اعتيادية، فقد ذاق حلاوة المعرفة،
1 / 10
وأعجب بما تضفيه على رجالها من هيبة وسكينة، وتاقت نفسه إلى الاستزادة من علومهم، ولكن رغبته هذه لم تكن تلقى آذانا صاغية من أمه، التي كانت ترجو أن يتولى- بوصفه أكبر أبنائها- دوره في إعالة الأسرة. ويظهر أن أكثر من مشادة قد حدثت بين الابن الطموح والأم المحدودة الأفق حول جدوى العلم والتعلم، وقد سجل هو لنا بعض ما كان يدور بينهما فقال «وكانت والدتي- رحمها الله تعالى- بلهاء، وكان نساء المحلة يضحكن عليها، يقلن لها: ايش ينفعك العلم وأنت امرأة أرملة وابنك الكبير لا يساعدك في شيء فكانت رحمها الله تقول: يا ولدي نحن فقراء وأنتم أيتام، هب أن عمّك يطعمك فمن يكسوك؟ وأنا لا أصغي لها حتى ألّحت عليّ في ذلك وقطعت كسوتها عني، كل هذا نشأ عن بلهها، وإغواء نساء الجيران إياها، وإلا فهي في حد ذاتها مباركة رحمة الله عليها» . «١» وهكذا تحولت أيام الطلب إلى أيام معاناة وألم وصبر، بحيث لم يجد ما يشتري به شمعا أو شيرجا لمطالعة دروسه، فكان يطالعها على ضوء القمر، أو على سرج السوق، وبقي- كما يقول- مدة مديدة ما أكل فيها لحما، وكان يلبس الثوب فلا يخلعه حتى يتمزق لعدم حصوله على الصابون، ويطول شعر رأسه فلا يجد ما يحلقه به، يقول ملخّصا تلك المدة العصيبة من حياته «والحاصل أني وجدت أيام الطلب من المشاق والجوع والسهر والعري والإفلاس ما لا طاقة به لولا إسعاف الله ولطفه، وكنت مع هذه المشاق أجد للطلب لذة عظيمة» . ووجد عبد الله في خاله ما يعوضه عن موقف أمه غير المتفهم، فقد شجعه هذا على المضي في سبيل العلم، ومواصلة الأخذ عن الشيوخ، فبعد أن أنهى دراسته في كتّاب الشيخ عبد الرحمن، وأتقن الخط، أرسله خاله إلى عالم الكرخ يومذاك «الشيخ العالم النحرير والجهبذ الشهير، تذكرة السلف، وعمدة الخلف، زين الملة والدين، الشيخ حسين نوح الحديثي الحنفي «٢»» وكان هذا العالم يتولى التدريس في المدرسة العمرية التي أنشأها له
1 / 11
خصيصا والي بغداد عمر باشا ١٠٩٠ هـ/ ١٦٧٩ م، وتقع على كتف دجلة في الجانب الغربي شرقي جامع القمرية ملاصقة له، «١» فانتظم الشاب عبد الله في سلك طلبة المدرسة، وربما استعان ببعض مخصصاتها على مواصلة التفرغ للعلم، وساعده ذلك التفرغ، مع ما أوتي من مواهب، على النبوغ في دراسته والتفوق على الأقران، وامتثالا لتعليمات شيخه، فقد حفظ الأجر ومية متنا مع إعراب أمثلتها وأتقنها غاية الإتقان، وبات موضع اعتزاز شيخه وثنائه، وشجّعه ما حصل عليه من تقدير على الانتقال إلى شيوخ آخرين، يأخذ عنهم ويستفيد منهم، فتنقل بين مدارس بغداد الشهيرة يومذاك، ويبدو أنه ترك، في هذه المرحلة من حياته، الإقامة في بيت أمه نهائيا، وأمسى يبيت في المدرسة المرجانية في الجانب الشرقي من بغداد، وهي أكبر مدارس بغداد وأكثرها أهمية، ثم ما لبث أن انتقل للإقامة والدرس في المدرسة الأحسائية على شاطىء دجلة في الجانب الشرقي أيضا، وكانت هذه المدرسة تحتوي على غرف بعضها مطل على النهر، وبعضها في الجهة الشمالية، وهي تعد مجمع الزّهاد والمتقشفين. «٢»
تاقت نفس عبد الله الكبيرة إلى الاستزادة من علوم عصره، ومواصلة رحلة الدرس والبحث، ويبدو أنه أدرك أن لا مزيد هناك إن هو أقام في بغداد وحدها، فما فيها من شيخ
1 / 12
وعالم إلّا والتقى به وأخذ عنه، فضلا عن أن ثمة علوما لم يجد بين البغداديين في أيامه، من تخصص بها أصلا، وهكذا فقد استجمع أمره على الرحلة إلى الموصل لمواصلة دراسته على علمائها، كان عمره إذ ذاك قد تجاوز الثالثة والعشرين.
وفي سنة ١١٢٧ هـ/ ١٧١٦ م سافر عبد الله إلى مدينة الموصل بهدف «تحصيل علم الحكمة والهيئة»، ولكنه، ما إن وصلها، والتقى بشيوخها، حتى أخذ بإكمال سائر ما درسه من علوم أخرى وهو في بغداد، مثل النحو وعلوم العربية، والعلوم الشرعية والعقلية، كما درس الهيئة (الفلك) وتلقى الحديث الشريف على المشايخ، وقراءة القرآن وتجويده. ولم تكن أحوال الشيخ في الموصل بأفضل مما كانت عليه في بغداد، فقد داهمه الجوع والبرد، وألفه الفقر، ولم يكن له في الموصل من معين، والظاهر لنا أنه كان يتقوت من مخصصات بعض المدارس هناك، وربما أقام فيها، يقول واصفا تلك المرحلة من حياته «والحاصل أني نلت في طلب العلم نهاية التعب وغاية النصب مع عدم المساعدة والمعين والناصر والظهير حتى حصلت على أكثر الفنون من سائر العلوم» «١» وقد استغرقت إقامته في الموصل ثلاثة عشر شهرا، فتكون عودته إلى بغداد بين عامي ١١٢٨ و١١٢٩ هـ/ ١٧١٧- ١٧١٨ م.
استقراره الاجتماعي:
عاد عبد الله إلى بغداد وقد حصل من العلم ما لم ينله غيره من معاصريه، فطار صيته، واشتهر أمره، ونال في هذه المرحلة من حياته لقبه الشهير (السويدي) الذي سيعرف به، وأولاده من بعده، أجيالا عديدة. وسبب تلقبه به، هو أن زميلا له في الدرس، يدعى الشيخ حسين بن عمر الراوي سافر ذات مرة إلى (راوة) بقصد زيارة أهله، فأخذ يراسل عبد الله من هناك على العنوان الآتي «يصل الكتاب إلى الملا عبد الله ابن أخت الملا أحمد بن سويد»، ثم اختصر ذلك، في ما بعد، إلى (السويدي) فعرف به. وكانت أسرته تعرف قبلها بأولاد
1 / 13
مرعي نسبة إلى جده، كما عرف هو- في أثناء إقامته في الموصل- بالبغدادي، على أن هذه الألقاب لم تشتهر شهرته بالسويدي.
ويبدو أن شيئا من التحسن أصاب أحواله المادية، فقد استطاع أن يتزوج من امرأة صالحة، تدعى فاطمة، شجعته على المضي في طلب العلم. ومنّ الله عليه منها بأولاد نابهين، ولد أولهم عبد الرحمن سنة ١١٣٤ هـ/ ١٧٢١ م، وولد ثانيهم محمد سعيد سنة ١١٤١ هـ/ ١٧٢٨ م، وولد ثالثهم إبراهيم سنة ١١٤٦ هـ/ ١٧٣٣ م، وولد رابعهم أحمد في سنة ١١٥٣ هـ/ ١٧٤٠ م وبابنتين هما سارة، ولدت سنة ١١٥٠ هـ/ ١٧٣٧ م، وصفية، وقد ولدت سنة ١١٥٥ هـ/ ١٧٤٢ م.
وانتقل عبد الله من مسكنه القديم في محلة الدوريين، إلى دار أخرى- يظهر أنها كانت أحسن حالا من سابقتها- في محلة خضر إلياس من محال الكرخ القديمة من بغداد، وكانت الدار قريبة من دجلة، مطلّة عليه، ومشرفة على الفضاء الواسع الذي يحيط بالكرخ آنذاك، والذي كان محط القبائل العربية النازلة للاكتيال، وكان هذا الحي يمتاز- على نحو واضح- بصبغته العربية الخاصة، حيث كان موطنا للأسر العربية الكبيرة النازحة إلى المدينة من البادية، أو من أطرافها، مثل آل الشاوي زعماء قبيلة العبيد القحطانية وكانت دورهم مجاورة تقريبا لدار أسرته، والآلوسيين الحسينيين الذين كانوا قد نزحوا من بلدتهم آلوس على الفرات منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، «١» والعشاريين القحطانيين القادمين من نواحي الفرات الأعلى قبل ذلك، «٢» وغير هؤلاء. وكانت إقامة تلك الأسر النازحة في حي واحد، وتعرضها إلى ظروف متشابهة، يساعد على خلق روح جماعية
1 / 14
مترابطة، «١» وهي روح أثرت إلى حد عميق في شخصية السويدي، وابنه المؤرخ الأديب عبد الرحمن، إلى الحد الذي رشح الأول إلى تمثيل أهل بغداد في مؤتمر النجف سنة ١١٥٦ هـ/ ١٧٤٣ م ودفع الثاني إلى تزعم أهل حيّه في عدد من المناسبات والظروف، وخاصة ما اتصل منها بفتنة عجم محمد سنة ١١٩٠ هـ/ ١٧٧٦. «٢»
دوره في الحياة العامة:
وتزامن ذيوع شهرة عبد الله السويدي في بغداد، مع تولي أحمد باشا بن حسن باشا (١١٣٦- ١١٦٠ هـ/ ١٧٢٣- ١٧٤٧ م) الحكم. وسرعان ما اتصل نجمه بنجم أحمد باشا الصاعد، وكان الأخير يرغب في تقريب العلماء والأدباء إليه، رغبة منه في خلق مجتمع بغدادي مثقف، يسانده في مشاريعه وخططه، كما رأى فيه هؤلاء نموذجا جديدا لحاكم عراقي طموح لم تشهد البلاد مثله منذ أمد بعيد، فنشأت بين الباشا والشيخ صداقة وثيقة، كان من آثارها عدد من القصائد الطوال التي مدح بها الأخير واليه، وأرّخ فيها الأحداث العامة المهمة التي جرت في عهده «٣» وجاء اندلاع الحرب العثمانية- الإيرانية سنة ١١٣٥ هـ/ ١٧٣٢ م لتؤجج مشاعر العراقيين وتذكيها، فقد اندفعت قوات عراقية كبيرة، بقيادة والي بغداد حسن باشا، إلى داخل إيران مفتتحة كرمنشاه ومدنا إيرانية أخرى، منهية بذلك عهدا كاملا مليئا بأنواع الاعتداءات الإيرانية على أرض العراق، وكان تولي أحمد
1 / 15
باشا، ولده، قيادة القوات المحاربة سنة ١١٣٦ هـ/ ١٧٢٣ م ونجاحه في فتح همذان عاصمة الصفويين آنذاك، مدعاة لفخر العراقيين الذين أسهموا، بصيغ مختلفة، في تحقيق هذا النصر الباهر. وقد أبدى السويدي إعجابه بقابليات الوالي الشاب القيادية وتابع أخباره باهتمام شديد، وكانت له آراؤه فيما جرى يومذاك من أحداث، وقد نقل ابنه عبد الرحمن عنه آراء سديدة في تفسير ما تعرّض له الجيش العثماني من نكسات. «١»
وحينما حاصر نادر شاه بغداد صيف سنة ١١٤٥ هـ/ ١٧٣٢ م لم يتخل السويدي وأسرته، عن دوره في الدفاع عنها، فقد كانت خطة المهاجمين تعتمد على إحداث حركة تطويق على الجانب الغربي من بغداد، وهو أمر أدى إلى قيام أهل هذا الجانب بتحصين جانبهم على عجل. ولما كانت دار السويدي تطل على الفضاء القريب، خارج السور، فقد خرج هو ورجال عشيرته لصد المهاجمين وإفشال تعرضهم على تلك الناحية، وشارك الجميع، بحماسة منقطعة النظير، في معركة دفاع باسلة، وصفها ابنه عبد الرحمن- فيما بعد- وكان شاهد عيان لها بقوله «كنت على علية في دارنا مشرفة على محل الوقعة، فانظر إلى الخيل تعثر في الرجال وإلى السيوف تخطف رؤوس الأبطال حتى صار العدو أضعافهم، وكثر فناؤهم فأبصرت خيل عسكرنا (يريد: العسكر العثماني النظامي) ولت على أدبارها، وجدّت في جريها لفرارها، وأبصرت رجالنا ثبتوا ثبات الرجال، وقارعت الأبطال منهم الأبطال، وقاتلوا قتال من لا يريد الحياة، وكثر الرهج من جميع الجهات» «٢» فكانت تلك الملحمة مبعث ذكريات وطنية مشتركة ظلت تتردد في أفواه الناس أجيالا متعاقبة. ومن ناحية أخرى فإن فشل نادر شاه في اقتحام المدينة الصامدة، واضطراره إلى الانسحاب منها، كان بشير تحسن في أحوال السويدي نفسه، وإيذانا بتبدل أوضاعه المعيشية والاجتماعية، فقد لفتت شهرة الشيخ العلمية، وكفاءته الشخصية، انتباه أحمد
1 / 16
باشا، صحيح أن السويدي سبق له أن اتصل به مهديا إياه بعض قصائده، إلا أن الأمر لم يزد يومذاك عما يدخل في نطاق صلات الأدباء بولاتهم، أما الآن، فإن نظرة الوالي إليه أخذت طابعا أكثر تقديرا وجدية. وما أن مضت مدة قصيرة، حتى أمر بتعيينه مفتيا في قصبتي النجف وكربلا، وهو منصب رفيع، ومهم، يومذاك، فغادر الشيخ وأسرته بغداد ليستقر- فيما ظهر- في قصبة كربلا، وليمضي هناك مدة ثلاثة شهور هانئة «مسرورين بقرب أولئك الأكابر، مغبوطين بأولي الشرف الظاهر» . «١»
على أن الأيام لم تمض هانئة سعيدة، إذ سرعان ما تواردت الأنباء بتعرض إيراني جديد على العراق، واضطر السويدي إلى مغادرة كربلا، مع متوليها، على عجل، صحبة القوات الخاصة بمدينة الحلة، وسلك طريق شفاثة الصحراوي، ليصل، بعد حين، إلى الموصل التي كانت تتمتع بظرف أكثر أمنا، بعد أن استطاعت قواها العسكرية المحلية سنة ١١٤٥ هـ/ ١٧٣٢ م أن تلحق هزيمة منكرة بقوة إيرانية أرادت احتلالها. «٢»
وبانتهاء الحركات العسكرية، وتقهقر الجيوش الإيرانية، عاد عبد الله السويدي إلى كربلاء ليتولى وظيفة فيها، ولكنه لم يلبث أن انتقل بأسرته إلى بغداد، ليستقر فيها بصفة نهائية.
وشهدت المدة التالية من حياته نشاطا كبيرا في مجال العلم والتعليم، بل في توجيه الحركة الفكرية في بغداد يومذاك، فقد تقلّد أرفع المناصب العلمية، إذ تولى التدريس في مدرسة جامع الإمام أبي حنيفة النعمان، «٣» فكان ثاني من درّس فيها بعد إعادة افتتاحها في منتصف القرن الثاني عشر الهجري (١٨ م)، «٤» كما تولى التدريس أيضا في المدرسة
1 / 17
المرجانية، «١» التي سبق أن تلقى العلم فيها أيام الطلب، وكان التدريس فيها معقودا «لأعلم أهل بغداد» . «٢»
ثم أنه تولى سنة ١١٥٥ هـ/ ١٧٤٢ م التدريس في مدرسة جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني، بعد تجديدها، في المدة نفسها «٣» «فانتفعت به الطلبة علما وعملا» . «٤»
وجاء عدوان نادر شاه الجديد على العراق سنة ١١٥٦ هـ/ ١٧٤٣ م ليلقي على كاهل السويدي، وقد بلغ الخمسين من العمر، مسئولية كبرى ومهمة صعبة، ففي ذلك العام قدم نادر شاه إلى العراق «بجحافل متواترة وجنود متوافرة عدد الرمل والحصى، وبث سراياه وعساكره في تلك الأراضي، فأبقى لحصار بغداد نحو سبعين ألفا «٥» . وفي ظل ظروف حصار قاس طويل، وتحركات معادية مستمرة، انتدب السويدي للسفر- في مهمة شاقة وخطيرة- إلى معسكر نادر شاه، ممثلا للجانب العثماني، في المؤتمر المعقود هناك تحت ذريعة التوفيق بين المذاهب الإسلامية. وقد سجّل لنا السويدي نفسه، يوميات ذلك المؤتمر وما جرى فيه من جدال وحوار، وما انتهى إليه هو من نجاح في المهمة التي انتدب من أجلها. «٦» ولا نشك في أن اختيار أحمد باشا للسويدي دون غيره من علماء بغداد المعاصرين كان دليلا على الشهرة العريضة التي حققها الأخير، والإجماع الذي انعقد عليه بوصفه أعلم أهل بغداد وأكثرهم كفاءة ومقدرة على رد الخصوم.
1 / 18
ويبدو أن شعورا غامرا من الرضا عمّ نفس السويدي- بعد فراغه من مهمته الخطيرة- ممتزجا بالحمد والامتنان لله الذي وفقه فيما فعل، فعزم على حج بيت الله الحرام. وما إن رفع الحصار عن بغداد في أواخر سنة ١١٥٦ هـ/ ١٧٤٣ م حتى كتب- وفق التقليد السائد- طلبا إلى والي بغداد يستأذن فيه للسفر «لأن العادة في بغداد إذا كان لأحد جهة تدريس أو خطابة أو إمامه لا بد له أن يستأذن من والي بغداد» وقد افتتح طلبه بقصيدة دالية وصف فيها شوقه إلى بيت الله الحرام وإلى «تلك الأماكن الشريفة، والبقاع السامية المنيفة» . «١»
وبعد صدور الموافقة المرجوة، أوكل الشيخ عبد الله في تدريس مدرسة الشيخ عبد القادر الكيلاني ابنه الشاب النابه عبد الرحمن. وغادر بغداد في رحلة طويلة- بحسب مراحل طرق ذلك العصر- إلى مكة المكرمة زار خلالها العديد من المدن والقرى، والتقى في أثناء ذلك بالكثير من العلماء والأدباء والمشايخ، وهي التي جمع أخبارها في كتابه الذي عنونه (النفحة المسكية في الرحلة المكية) وهو الذي بين يدي القارئ الكريم.
عاد السويدي إلى مدينته بغداد، ليقضي فيها ما تبقى له من العمر، دون أن يغادرها إلى أي بلد فيما نعلم. ولسنا نعلم طبيعة المناصب العلمية التي تولاها بعد استقراره نهائيا في بغداد، وأغلب الظن أنه انصرف، خلال هذه السنين، إلى التدريس وكتابة بعض الرسائل وربما نظم الشعر أيضا.
شهرته العلمية:
طارت شهرة السويدي وانتشر صيته بما حققه من مجد علمي، وما صنفه من مؤلفات تلقفتها أيدي الطلبة، وما رنّت بصوته المنابر وحلقات الدرس، فضلا عما حصل عليه من إجازات العلماء خارج العراق، واقترن باسمه من توفيق في المهمة التي كلفه بها والي بغداد سنة ١١٥٦ هـ/ ١٧٤٣ م، فقصده الطلاب من كل حدب وصوب، آخذين عنه العلم،
1 / 19
مستجيزين منه الإجازة، على وفق تقاليد ذلك العصر وأعرافه، ولم يكن مجلسه يخلو من أمثال أولئك الطالبين في كل حين. وفي هذا يقول واصفا منزلته الاجتماعية «وصرت- والحمد لله- بحيث يشار إلىّ بالبنان، ويوقّرني العامة والأعيان، وترفع محلي الولاة، وتتمنى رؤيتي القضاة، مسموع الكلمة، نافذ الأمر ... وكل هذا، أيها الواقف على هذه الرحلة- من بركات العلم» . «١»
نال السويدي تقدير معاصريه، فوصفه الأديب عصام الدين عثمان بن علي العمري الموصلي (ت ١١٨٤ هـ/ ١٧٧٠ م) بأنه «ممن يجلّه الدهر، ويعظّمه العصر، ويقدمه الفخر.. صاحب الأمثال السائرة، والبديهة الغريبة النادرة، وهو النبيه النبيل، الذي ما للوصول إلى كماله سبيل. رجل العراق، وواحد الأدب على الإطلاق، شمس سماء ذلك البلد، الذي لا يدانيه في فضله أحد ... فهو من حسنات الزمان، وثمار الأمن والأمان..
الخ» «٢» وتساءل الأديب محمد بن مصطفى الغلامي (ت ١١٨٦ هـ/ ١٧٧٢ م): «ماذا أقول في حقه وقد طارت أجنحة الأخبار بفضله في البلاد كما ملأت الدروب؟» «٣» ووصفه المؤرخ محمد خليل المرادي الدمشقي (ت ١٢٠٦ هـ/ ١٧٩١ م) بأنه «الشيخ الإمام العالم العلامة، الحبر المدقق الأديب الشاعر المفنن» . «٤»
ومنهم من قصد بغداد خصيصا للأخذ عنه، والاستفادة من علمه، ذكر الشيخ عبد الرحمن بن عبد الكريم الأنصاري المدني (ت ١١٩٥ هـ/ ١٧٨١ م) في مقامة أدبية أنشأها على غرار مقامة الأمثال السائرة للسويدي، «٥» أنه طرق سمعه- وهو في بلده- من يشدو
1 / 20
«قصائد رائقة، ومدائح فائقة، دلائل الإعجاز تلوح من تراكيبها، ومخايل الإيجاز تضوع من أساليبها، أسرار البلاغة في تلخيص مبانيها، ومفتاح الفصاحة في إيضاح معانيها ...» فاعتقد أن صاحبها «من الفضلاء المتقدمين» . ولما حدثه بعض الثقات «ممن جاب البلاد» أن بغداد «مشحونة بالجهابذة النحارير، والفضلاء المشاهير» استنكر هذا القول، لأنه سبق أن أقام بها، وكان العلم فيها «اسما بلا مسمى» فقيل له إنّه «نبغ فيها جناب العالم النحرير، عديم المثيل والنظير، إن ذكر العلماء فله القدح المعلّى، أو عد الفضلاء كان التاج المحلّى، عضد الملة المحمدية، وناصر الشريعة الأحمدية، آراؤه صائبة، وأفكاره ثاقبة» يعني بذلك عبد الله السويدي، وقال إنه فرح حين تحقق صحة رواية من أخبره، وانطلق «قاصدا بذلك كعبة الآمال، يقطع الروابي والوهاد، والأغوار والأنجاد» حتى وصل مدينة السلام، ليأخذ على عالمها وليدرس على يديه، فإذا به «فوق ما يصفه الواصفون بكثير» .
وبعد عمر ناهز السبعين سنة قمرية، توفي الشيخ الجليل عبد الله السويدي في ضحوة يوم السبت الحادي عشر من شوال سنة ١١٧٤ هـ (١٧ مايس- مايو ١٧٦٠ م)، فدفن بإجلال يليق بحياته الثرة، وعطائه الجم، ومنزلته الرفيعة، في جوار مسجد الشيخ الزاهد، العارف بالله، معروف الكرخي، في مقبرته الكائنة بالجانب الغربي من بغداد. وقد ترك وراءه أربعة من كرام البنين، أحسن تربيتهم وتعليمهم، فضلا عما أورثهم من ذكاء فطري ونباهة، فبرز جميعهم في مجالات العلم والمعرفة، ولم تكن شهرة بعضهم بأقل من شهرة أبيهم، فعبد الرحمن، أبو الخير (المتوفّى سنة ١٢٠٠ هـ/ ١٧٨٦ م) كان مؤرخا فذا وفقيها وأديبا وشاعرا بارزا، بلغت مؤلفاته نحو اثنين وعشرين كتابا ورسالة، «١» ومحمد سعيد، أبو السعود (المتوفّى سنة ١٢٢٣ هـ/ ١٨٠٨ م) كان فقيها شاعرا أديبا، له مؤلفات ومحاورات شعرية، ونال إحدى إجازاته من العالم اللغوي البارع، الشيخ محمد مرتضى بن محمد
1 / 21
الحسيني الواسطي الزبيدي مؤلف معجم (تاج العروس في شرح جواهر القاموس)، «١» وإبراهيم، أبو الفتوح (المتوفّى في الهند، ولم يعرف تاريخ وفاته) . وكان محدثا أديبا له تصانيف، وأحمد أبو المحامد (المتوفّى سنة ١٢١٠ هـ/ ١٧٩٥ م) وهو الشاعر المؤلف في الأدب والتصوف وغير هما، «٢» فكلهم كان مشهودا له بالفضل والأدب، معروفا بسعة العلم، وإليهم انتهت إجازات العديد من علماء العراق التالين، وعلى أيديهم تتلمذ كثير من الطلبة والدارسين، ووصفت أسرته بأنها «واحدة من تلك الأسر العربية الفاضلة التي حفظت لنا تقاليد العلوم الإسلامية القديمة في هذه العصور المظلمة بالنسبة للأدب العربي ومهّدت الطريق لنهضة ذلك الأدب في القرن التاسع عشر» . «٣»
1 / 22
الفصل الثاني دوره في الحياة الفكرية
شيوخه وإجازاته العلمية:
أخذ السويدي العلم عن عدد كبير من العلماء والشيوخ من الذين التقى بهم في بغداد والموصل ومدن بلاد الشام والحرمين الشريفين، ونال منهم إجازات عديدة بمروياتهم ومعارفهم، كما أجاز- هو- عددا كبيرا آخر من تلامذته. فأعاد بذلك الحياة إلى كثير من العلوم والمعارف التي كادت أن تندرس في العراق نتيجة ما توالى عليه من كوارث ومحن.
ووصل تلامذته في العراق بأهم أسانيد الرواية المتسلسلة لدى العلماء الآخرين من المعاصرين في خارجه، بعد أن كانت هذه الأسانيد تنقطع عند بلوغها حدا معينا من الرواة فلا تتجاوزه لقلة العلماء في العراق في القرون التي سبقت القرن الحادي عشر للهجرة (١٧ م) وتبعثر جهودهم العلمية. ومن ناحية أخرى، فإنه أسهم- إسهاما جادا- في تجديد الحياة الثقافية في العراق وفي توجيهها عن طريق إثارة اهتمام طلبته- وهم كثر- بالمصنفات المهمة، التي وضعها علماء الأمة في عصور خلت، ثم عزّت نسخها، أو فقدت في عصور الفوضى التالية.
ولا نشك في أن لرحلته الطويلة وإقامته، خلالها، في مدن عربية عديدة، وأخذه من علمائها، وروايته عنهم الكتب والرسائل، أثرا كبيرا في نقله مصنفات مهمة، ما كانت لتعرف في بغداد لولا جهوده تلك، ولا أدل على ذلك من أنه كان أول بغدادي في عصره أحيا علمين كانا قد أوشكا على الاندثار بين علماء مدينته، وهما الحكمة، ويعني بها الكيمياء غالبا، والهيئة، أي الفلك. وقد درسهما في الموصل على بعض من تبقى هناك من
1 / 23