قد اختلفت / نصوص الشافعي رحمه الله في حد المدعي الذي /5 أ/ قال صلى الله عليه وسلم إنه يحتاج إلى البينة، والمدعى عليه الذ لا يحتاج إليها، فنقل عنه أصحابه، ومنهم صاحب الإبانة (¬1) أنه قال مرة المدعي: هو الذي يدعي خلاف الأصل، والمدعى عليه: من يكون قوله على وفق الأصل، وقال مرة: هو الذي يدعي خلاف الظاهر، والمدعى عليه: من يوافق قوله الظاهر، وقال مرة: من يخلى وسكوته، والمدعى عليه من لا يخلى وسكوته، وقد حكى ذلك كله الغزالي (¬2) في كتاب النكاح، وكتاب الدعاوي، وخرج هو وغيره من الأصحاب عليه فروعا، منها ما إذا اختلف الراهن والمرتهن في أن العصير المشروط رهنه في البيع، هل قبض بعد انقلابه خمرا أم لا، كما هو مبين في الوسيط / والنهاية، ثم ومنها إذا أسلم الزوجان المشركان قبل 5ب الدخول فقال الزوج: أسلمنا معا، فالنكاح بحاله، وقالت المرأة: بل أسلم أحدنا قبل الآخر، فزال النكاح بإسلامه، فقالوا: إن قلنا إن المدعي من يدعي خلاف الظاهر فهو الزوج، لأن الظاهر عدم اتفاق الإسلامين في وقت واحد، فيكون القول قول المرأة، لأن الظاهر معها، فتكون هي المدعى عليه، وإن قلنا إن الذي يخلى وسكوته فالمرأة مدعية، لأنها لو سكتت لدام النكاح، والزوج مدعى عليه، فيكون القول قوله من غير بينة، وكذا إن قلنا: إن المدعي من يدعي خلاف الأصل، فهو المرأة أيضا، لأن الأصل عدم تقدم إسلام أحدهما على الآخر، وإذا كانت مدعية كان الزوج مدعى عليه، فيكون 6 أالقول قوله / من غير بينة، ولأجل تظافر القولين على كونه مدعى عليه 6 ب كان هو الراجح في المذهب، وإذ عرفت قاعدة الشافعي رحمه الله في حد المدعي الذي دلت السنة النبوية على أنه لا تقبل دعواه إلا ببينة، والمدعى عليه الذي لا يفتقر إلى بينة، قلت: وجب على المتبع له والمقلد لمذهبه أن يخرج ما يقع من الفروع غير المنقوصة عليها، كما خرج أصحابه الفرع الذي أسلفناه وغيره عليها، بل بعضهم يقول: إن القولين في ملة الإسلام منصوصان، ومنهما خرج الخلاف في الأصل المذكور، وعند ذلك نقول: إن قلنا إن المدعي من يدعي خلاف الأصل، فأهل العناد، المظهرون في الأرض الفساد، هم المدعون، لأنهم يدعون أن الكنائس التي بالقاهرة أحدثت قبل الفتح، والأصل عدم حدوثها فيما مضى من الزمان إلى الوقت / الذي وقع الاتفاق على 7أالحدوث فيه، وكذا هوفي جميع الحادثات، ولذلك قال الشافعي رحمه الله وجل (¬1) أصحابه: إن الرجل إذا طلق امرأته، واتفقا على وجود صورة ما تنقضي به العدة في وقت بعينه، وقال الزوج: كنت راجعت قبل ذلك، أن القول قول المرأة في عدم الرجعة، لأن الأصل عدمها في ذلك الزمان، فلو أنهما اتفقا على وجود صور ما تحصل به الرجعة في وقت معين، وقالت المرأة: كانت عدتي قد انقضت قبل ذلك، وأمكن أن يكون ذلك، أن القول قول الزوج، مع أن الشرع جعل قولها مقبولا في انقضاء عدتها، وما ذاك أيضا كما قالوا، إلا أن الأصل عدم الانقضاء في الزمان الماضي، فيبنى الحكم عليه، وقالوا أيضا: إذا غصب إنسان عبدا، وتلف في يده، واختلفا في قيمته / فقال مالكه: كان كامل7أالأعضاء حين الغصب، وقال الغاصب: بل كان بعض أطرافه قد زال، أن القول قول المالك على الأصح، وما ذاك إلا نظرا للأصل، وإذا لاحظت ذلك، وجدت اعتماد الأصول عندنا في الفروع أمرا بينا، وإن قلنا: إن المدعي من يدعي خلاف الظاهر، فأهل العناد هم المدعون أيضا، لأن الظاهر من حال ملك مغربي مالكي، نشأ في بلاد ليس فيها بيعة، ولا كنيسة، ولا ما يشاكل ذلك، وقد تملك مملكة جديدة، وأراد أن ينشيء بها بلدة يستوطنها، وتعرف به، وتنسب إليه، إن لا يفعل ذلك في محل يكون به شىء من ذلك، كيف، وما ربي عليه وألفه يأباه، وطبعه ينفر منه ويقلاه، والبعد من الكفار مندوب إليه، ومحثوث عليه / والمغاربة إلى اتباع السنن مائلون، وعن خلافها حائدون، 7 ب ولمجاهرة الكفار بالمعاداة مظهرون، وهذا دأب كل ذي طبع سليم، وحبر عليم، وقد حكي عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله أنه قوي عنده اتباع الظهور، فقال: لا تسمع دعوى الخسيس على الشريف، إذا لم يكن بينهما سبب في الظاهر يكذبه في دعواه، وحكي عن أبي سعيد الاصطخري (¬2) من أصحابنا ما يقرب من ذلك، إذ قال فيما حكاه الإمام عنه: إن الرجل من السفلة إذا ادعى معاملة رجل عظيم القدر في أمر يبعد وقوعه، فدعواه مردودة، ومثل ذلك بما إذا ادعى الرجل الخسيس أنه أقرض ملكا مالا، أو نكح ابنته، أو استأجره لسياسة دوابه، أو ما جرى هذا المجرى، وهذا منه غلو / في 8 أاتباع الظهور، لم يوافقه عليه غيره من الأصحاب، لأجل إطلاق الخبر، وإنما ذكرته ليعلم.
وإن قلت إن المدعي من يخلى وسكوته، فيجوز أن يقال: إن أهل الشقاق هم المدعون أيضا، ويجوز أن يقال بخلافه، وحينئذ فيكون قد توافق على أنهم مدعون قولان، وقضية ترجيح قبول قول المرأة في المسألة السالفة، ليوافق قولين من أقوال الشافعي على أن المدعي هو الزوج أن يكون ذلك هو المرجح في المعاندين أيضا، بل أولى، لأنه لم يظهر القطع بأنا إذا قلنا إن المدعي هو الذي يخلى وسكوته، لا يكون كذلك بالجملة، فمن ذلك يخرج أن للشافعي رحمه الله بمقتضى أصله هذا قولين في أنهم مدعون، أو مدعى عليهم، فإن قلنا: هم المدعون، وجب عليهم إقامة الحجة على ما يذكرونه / عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: (لكن البينة على المدعي) وإن قلنا: 8ب إنهم مدعى عليهم، كانت الحجة علينا، وسنذكرها إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: القولان للشافعي في حد المدعي والمدعى عليه إنما هما إذا كان الكلام في شيء ليس في يد واحد منهما، أما إذا كان في يد أحد المتكالمين فهو المدعى عليه جزما.
صفحة ١٣