يشهد الله أنني من منذ شدَّت الركاب، وأزفَ البين بفراق الأحباب. صرت مقسَّمًا بين نفسٍ مقيمةٍ بكربها، وروحٍ رهينةٍ في ركابها. على أن النَّفس وإن أقعدها الدهر قسرًا، لم تقعد عنك ساعةً فكرًا. ولا غبت إلا على عيون الإقبال في إغماضها، وعلى نفوس الآمال في انقباضها. حيث رماني الزمان، بسهام الحرمان.
وإنَّ من أعظمِ البلوَى أخا لسَنٍ ... يبيتُ ضيفًا لعجمٍ في الورَى خُرَسِ
والى الله أرفع قصتي، وأبتهل إليه في دفع غصَّتي.
عسَى اللهُ إنَّ الله ليس بغافلٍ ... ولا بدَّ من يسرٍ إذا ما انتهى العسرُ
فاسأله سبحانه أن ييسر نيل المنى، ويزيل عنَّا هذا العنا.
ويطفئ نار الجوى، على رغم أنف النوى. لنكفر سيئة أليم الفراق، بحسن نعيم التلاق.
إن عادَ شملي بمن أهواهُ مجتمعًا ... لا أعتِبُ الدَّهرَ يومًا بالذي صنعَا
ثم قدمت إلى القسطنطينية فأْتَلفت به ائتلاف روح، بجسد بالٍ مطروح. وامتزجت معه امتزاج، راحٍ بماءٍ قراح. ومضت لي معه أوقاتٌ عددتها من حسنات الزمان، وجعلتها تاريخ الأماني والأمان.
والأوقات لا تتفاضل بالذات، ولكن أوقات اللَّذَّات لذَّات. أتمتع من لفظه بائتلاف العقود، ومن مغناه بسلاف العنقود. حتى تولاه مولاه بعفوه ورضوانه، وقضى بتفريق شمل أخدانِه وإخوانِه. فأضحى كالظَّن المرجمِ، وخبره كاللفظ المرخَّمِ.
وقد فقدت به الوطر في نضرته، والعيش الذي يشفُّ عن نبي الرَّبيع في خضرته. وكان أعارني من فوائده صدرًا وافيًا، وأهدى إليَّ من فرائده قدرًا كافيًا. فعدمت من فضل ربيعها ووردًا، وبقيت يعدها كالسَّيف فردًا.
فمما أخذته عنه من أشعاره التي أخذت بأطراف الحسن، وإذا تليتْ على محزونٍ سرتْ عن فؤاده الحزن، قوله من قصيدة، مستهلها:
يشوِّقنَا للدَّارِ ذِكرُ الحبائبِ ... وينطقنا بالحمدِ فيضُ المواهبِ
وإنَّا لقومٌ لا نرى الحبَّ سبَّتًا ... إذا ما رأتهُ سبَّتًا آل غالبِ
ولا نرهبُ الأقدارَ إلا إذا رمتْ ... سهامَ المنايا من قسيِّ الحواجبِ
ولا نعذلُ الأحبابَ في الصَّدِّ والجفا ... ولا نرتجي سلمَ العدوِّ المحاربِ
إذا كانَ قلبُ المرءِ ليسَ يطيعُه ... فأجدرُ بالعصيانِ قلبُ الأجانِبِ
وليلٍ كقلبِ السَّامريِّ وظلِّهِ ... كوكبُه لا تهتدي للمغاربِ
قطعتُ وأصحابي سُكارى من الكَرى ... وقد ضمَّنا والزُّهرَ ثوبُ الغياهبِ
على ضامرٍ كالسَّهمِ سيرًا ورقةً ... فأبعدُ مطلوبٍ وأقربُ طالبِ
أحاول سبقَ الشُّهبِ في كلِّ حالةٍ ... يداوِي بنعماهِ جروحَ النَّوائبِ
دفعنا بجدواهُ الخطوبَ وجودِه ... وقد يدفعُ الدِّرياقُ سمَّ العقاربِ
همامٌ أتى في مجدِهِ وصفاتِه ... وأفكارِه دونَ الورى بالعجائبِ
ومولًى يكادُ البحرُ يشبه جودَه ... ولكنَّه كالشُّهدِ عذبُ المشاربِ
به تفخرُ الأيَّامُ والمجدُ والعُلا ... إذا افتخرتْ أمثالُه بالمراتبِ
وتخشى نهاياتُ العواقبِ رأيهُ ... إذا خافَ أهلُ الرأيِ سوءَ العواقبِ
وعلاَّمةٌ لو كانَ من قبلِ مالكٍ ... لما اختلفتْ أقوالُ أهلِ المذاهبِ
بفكرٍ دقيقِ الفكرِ في كلِّ مشكلٍ ... من الأمرِ كالسَّيفِ الرقيقِ المضاربِ
بعثتُ إليه بالقوافي كأنَّها ... مقانبُ شكرٍ تهتدي بمقانبِ
ولولا صروفُ الدَّهرِ أهديتُ ضِعفها ... مرصَّعةً بالنَّيِّراتِ الثَّواقبِ
ولكنَّها جهدُ المقلِّ وحملةُ ال ... جبانِ على ضعفٍ ونارُ الحباحبِ
فسامِح وعامِل بالتي أنتَ أهلهُ ... فعفوك عندي من أجلِّ المطالبِ
وقوله من أخرى يمتدح بها أخا الوزير الفاضل، وهو بتكريت:
بالنَّفسِ يسمحُ من أرادَ نفيسا ... والحبُّ أولُ ما يكونُ رسيسَا
1 / 64