في العاشرة كانت كل العمليات الصغرى قد انتهت، وفي ثوان كان المسرح الجراحي قد نظف تماما، وأعيد ترتيبه، وجيء بالسيدة مخدرة وحملت ووضعت فوق منضدة العمليات الرئيسية، وسلطت على بطنها العاري أنوار الكشافات القوية، والكل في موقعه مستعد للبدء، بينما «سستر العمليات» الإيطالية تراجع للمرة الثالثة كالتلميذة قبل الامتحان كل ما تتطلبه العملية من أدوات، وكان الأستاذ يغتسل ويتعقم.
في العاشرة وعشر دقائق كان رأس المشرط ينغرز قريبا من «السرة» محددا نقطة البداية، ثم في خط مواز لمنتصف البطن تسحبه اليد الشهيرة التي أصبحت جزءا من تاريخ الجراحة في مصر سحبتها السحرية، وفي ومضة ينقض المساعدون بالملاقط يغلقون بها كل الأوعية الدموية الصغيرة التي تقطعت، وبلا زمن يربطونها بالخيط الخاص، والجرح قد أصبح نظيفا بلا نقطة دم يكشف عن دهن ما تحت الجلد.
ولا بد أن لحظة رضاء قد مرت بالأستاذ وهو يستمتع بقيادته لهؤلاء الناس؛ فهو لم يعد بحاجة أن ينطق بكلمة؛ فقد تعلموا تماما أن يفهموه، حتى والفكرة أو الأمر لا يزالان مشروعين في رأسه كانوا يستطيعون التقاطهما والشروع في تنفيذهما.
حتى ارتدادة عينه من فوق القناع إلى طبيب التخدير ترمقه في هذه اللحظة بالذات، يفهمها الطبيب في الحال، ويمد يده إلى مفتاح الغاز في جهاز التخدير، وترتخي عضلات السيدة تنفيذا للأمر الذي تلقاه بنظرة العين.
العاشرة والنصف:
لا بد أن يده الآن تلمس الورم، ولا بد أنها بحركتها طولا وعرضا تتحسسه وتحدد حجمه وامتداده، ولقد ظل مساعدوه الأربعة - وعبد الرءوف لسعادته الكبرى ودونا عن بقية زملائه يقوم بدور المساعد الرابع - يكادون يكتمون الأنفاس استعدادا لكلمته التي سيصدر بها حكمه على الورم، وحين أفلتت شفتاه كلمة: غريبة! لم يجرؤ أحدهم حتى أن يسأل.
وقبل أن يطلب الملقاط القاطع الذي يستخدم لأخذ العينات الحية، كانت يد السستر تضعه في يده المفتوحة، وحين تم أخذ العينة كان على عبد الرءوف أن يطير بها إلى قسم «معمل الأمراض» لتفحص بالميكروسكوب، ويصل الأخصائي إلى قرار بشأنها. وحينذاك فقط عرف الجميع أن الأستاذ لم يصل بعد إلى معرفة كنه الورم.
وكالعادة لم يجد عبد الرءوف الأخصائي في مكتبه، كان قد ذهب إلى الإدارة لأمر لعله المطالبة بتسوية حالته. وكان عبد الرءوف يستغيث رجاء في التليفون، ولم يصل إلا بعد ربع ساعة، وأخذت عملية إعداد الشريحة وإعداد الميكروسكوب والصباغة وضبط النور ربع ساعة أخرى. حتما ستطير رقبته وبالذات حين قرأ في النهاية التقرير الذي كتبه الأخصائي بخط لا يقرأ، وأدرك معه أنه لا يستطيع الجزم إن كان الورم نابعا من العظم أو الغضروف أو أي نسيج آخر، وكذلك من الصعب تحديد إن كانت الخلايا خبيثة أو حميدة، كارثة!
وظن أن خللا قد حدث في نظام الكون حين لم يقابل بكلمة لوم واحدة والوجوم الشديد موجود ولا شيء سواه، فقط حين أمسك بالورقة قريبا من عيني الأستاذ، وقرأ الأخير التقرير تفجر بركان الغضب، وانهالت الشتائم بادئة بالمعيدين أجمعين، مارة بالجامعة والكلية، وخراب الذمم، والفساد والملعون الأخصائي. أما هو عبد الرءوف فقد نالته لكزة غليظة من كوع الأستاذ.
وكان الغضب قد تسرب إلى الحاضرين جميعا، وإلى الحجرة كلها بكل ما تحتويه، يكاد جوها يرعد ويبرق، والتوتر وصل إلى أقصى مداه. ولم يكن أحد يستطيع في وسط هذا كله أن ينطق بكلمة أو يشير برأي، وإنما التصرف كله والرأي والحل لا بد أن ينطق به الأستاذ، حتى وهو في هذه الحالة؛ فهو لا يزال الإرادة العليا؛ وعليه كان المفروض أن تؤخذ عدة عينات أخرى، ثم يغلق جرح البطن، وتكون عملية الاستكشاف قد تمت بنجاح، فما دمت لا تعرف كنه الورم، فمن غير المعقول أن تعبث به، أو تمد يدك لاستئصاله مثلا.
صفحة غير معروفة