بعدما تنتهي من إعادة تذكر كل قصص الحب والعلاقات بالنساء في حياتك وتجترها مرارا، بعدما ترتوي ما شئت من أحلام يقظتك، ومن تصورك لكل ما استحال عليك بلوغه ممكنا، وكل وقائع فشلك، وقد انقلبت إلى معارك فوز وانتصار، بعدما تستميت دفاعا عن كنوز ذكرياتك تلك ضد العدو الأوحد، السجن وعمله في النفوس، تبدأ تحس أنها رغم استماتتك تتسرب من قبضتك المطبقة عليها، وتتركك وقد بدأت تنسى أنك رجل؛ إذ قد تلاشى من وعيك كل ما كان يذكرك برجولتك، واختفت من عالمك الجديد كل لمحة أو بادرة تعيد لك الذكرى، وهكذا تحيا ونفسك الجديدة تعمر بكل شيء من آيات الحياة إلا منطقة منها مجددة مجدبة قفراء لا أمل لها في ماء أو نماء.
هكذا جلست أحدق في الحادث المروع الذي وقع، والذي نقلني فجأة من عالم اندثرت فيه الذكورة والأنوثة من زمان وانمحت، إلى وضع أنا فيه أرتكن إلى حائط ليس وراءه إلا نساء في نساء، كبيرات وصغيرات، وسمينات ورفيعات، وبيضاوات وسمراوات، وعلى كل لون وبأي شكل تشتهي وتريد، أحدق مروعا مشتتا، عاجزا عن أن أصنع أي شيء بالمرة.
إني في الزنزانة التي يتقاتل المساجين عليها ويقدمون الرشاوي ل «شاويشية» الأدوار كي يمنحوهم إياها. في الزنزانة الشهيرة التي لا يزال السجن يتناقل جيلا بعد جيل قصة الواقعة التي جرت فيها يوم أن احتلها أحد «اللومانجية» الذي قضى عشر سنوات في «الليمان»، وكان لا يزال أمامه على الإفراج عنه عشر سنوات أخرى، وكان مارا على السجن في «ترحيلة»، واكتشفوا في الصباح أنه استطاع بجبروته والاستعانة ب «مطواته» التي مهما فتشته لا تعثر لها على أثر، أن «يثقب» الحائط المبني من «الدبش»، والكائن بين زنزانته والزنزانة المجاورة في سجن النساء، بحيث أمكنه أن يصنع «ثغرة» نفذ منها بجسده إلى جاراته المسجونات الثلاث اللاتي تقبلن الحفر والثقب واللومانجي دون استغاثة، بل يقال إنه «ضاجع» حارسة الليل نفسها، حين جذبت انتباهها أصوات عدم الاستغاثة . منذ ذلك اليوم أقامت إدارة السجن حائطا ثانيا سميكا جعلت مونته من الأسمنت هذه المرة، من المحال أن ينجح أحد في ثقبه، حتى لو كان قادما من حرمان مؤبد.
أذكر الحادثة؛ لأنها بعد مدة وعقلي أبيض منتفخ بفكرة حظي الهائل، ساكن لا يملك حراكا، حين بدأ يتحرك كانت حركته الأولى هوجاء مجنونة على هيئة فكرة أن أثقب الحائط، وحيث إن المونة من الأسمنت فلا بد من استعمال أصبع من الديناميت أكلف أحد العساكر بشرائه، وما داموا يهربون كل شيء إلى السجن، حتى المخدرات، فلماذا يستعصي الديناميت؟ ويصنع لي فتحة أدخل بها إلى بيت اللحم المجاور، اللحم الشهي الحي الذي لم أذق طعمه من سنوات!
ومع أني رحت أخرف وأبذر في تخريفي على تلك الصورة، وأنا أحس بنفسي سعيدا منتشيا سكران بالنشوة، إلا أنه عاجلا أو آجلا كان لا بد أن أبدأ أتبين الوضع على حقيقته، وأدرك بجلاء ووضوح وثبات أني أصبحت في مكان ليس بيني وبين ما لا يقل عن أربعمائة امرأة فيه إلا خطوة - حتى لو كانت على هيئة حائط، فهي لا تعدو كونها خطوة - تأملا بدأ مخي معه يسخن وترتفع حرارته، حتى يبدأ يفرز عرقا داخليا غزيرا على هيئة رذاذ من الأفكار المتلاحقة. وكنت أعرف أنه مهما تنوعت أفكاري وتشتتت فلا بد أن أبدأ بعد «التمام» في الخامسة، أدق. •••
إن الحياة الحقيقية للمساجين لا تبدأ إلا بعد أن يزول إرهاب العيون الآمرة الناهية التي لا عمل لها إلا أن تمنعك من كل ما تملك حق منعه، وكأن السجن في الحقيقة ليس إلا كلمة «ممنوع» كبيرة وشاملة، ممنوع كل شيء إلا ما يبقي عليك الحد الأدنى اللازم كي لا تموت، لا لأنهم يريدون - لا سمح الله - لك البقاء، ولكنهم يريدون لك أن تحيا حياة الموت معها أرحم؛ إذ ممنوع عليك فيها كل ما يجعل من الحياة متعة، والمباح فقط هو كل ما يجعلها عبئا وعذابا وقيدا ثقيلا تتمنى لو تخلصت منه واسترحت بالموت، ولكن الغريب أنهم لم يستطيعوا، وأعتقد أنهم أو غيرهم لن يستطيعوا - مهما اتخذوا من احتياطات وبالغوا في قائمة الممنوعات - أن يخلقوا ذلك السجن الكامل الذي يحلمون به؛ فقد استطاع الإنسان دائما أن يجد حرية داخل كل قيد على الحرية، وأن يخلق داخل كل ممنوع ما هو مباح؛ ولهذا لا تبدأ الحياة الحقيقية إلا بعد زوال حراس المنع من ضباط وشاويشية، والعهدة بالرقابة إلى حرس الليل العزل، وهؤلاء كالمساجين تماما ما إن تزول عنهم الرقابة حتى - في معظم الحالات - ينطلقوا على سجيتهم. ما إن يدق جرس «التمام»، ويطمئن المأمور أن العدد مضبوط ولم ينقص واحد أو يهرب واحد، حتى يفرج كل مسجون عن نفسه، فيبدأ يتكلم مع من يشاء من جيرانه، ويسكت حين يشاء، ويزعق إذا عن له، ويغني متى أراد، ويقول رأيه في أحداث اليوم، ويشتم ويسب، أجل ويسب، وما أكثر كمية السباب التي تغادر الأفواه بعد «التمام»! وكأن السباب غريزة، ومزاولته ركن من أركان الحرية. وهكذا لا يبقى من السجن الكامل الذي أرادوه إلا جدرانا صماء هي الوحيدة المحبوسة داخل مساجين يشبعونها دقا وضغطا واختراقا بأحاديثهم وصراخهم، دون أن تجسر على منع أو اعتراض.
وكانت حريتي وما هو أكثر من الإفراج في رأيي، أن تأتي الخامسة وتقوم الضجة لأستطيع محتميا بها أن أبدأ أدق وأعلم الجارات بوجودي؛ إذ من لحظة الوعي فقط سيبدأ أروع وأهم حدث في حياتي تلك!
وقلت وأنا أدلل الاحتمالات تدليلا لا يحدث إلا والهدف العظيم في جيبك تداعبه متلذذا مستثيرا لشهيتك: ربما هن لم يعدن بعد، ربما هن في الحمام أو في المنسج. ولكن أشعة الشمس أصبح بينها وبين السقف في زنزانتي ما لا يزيد عن العشرة السنتيمترات بما معناه تعديها الخامسة والنصف، وأنا أدق ولا أحد يجيب. ربما سمك الحائط؟ بقوة أكبر ب «الجردل» نفسه، بقدمي وقوة الساق الهائلة رحت أدق، وفي الحقيقة لم أكن أدق بقدر ما كنت أطرد بشدة احتمال أن تكون نتيجة هذا الاحتشاد والفرحة إلى درجة الوصول إلى تدليل الاحتمالات أن الزنزانة المجاورة خالية تلك الليلة ، ومن يدري؟ ربما غدا أيضا ولليال كثيرة مقبلة. كنت أطرده بشدة لعلمي أن البله الذي قابلت به المسألة أول الأمر كان راجعا إلى أنها من الضخامة بحيث لا تصدق، وأني حين صدقتها فعلا، وبدأت أتصرف كانت قد غورت في كياني وعقلي وأحلامي إلى درجة أصبحت معها خيبة الأمل إذا حدثت شيئا بشعا شريرا لا يتحمله بشر.
في السادسة توقفت عن الدق. لم تكن أول مرة أقرر فيها التوقف، ولكنها كانت المرة التي قررت فيها التوقف بلا عودة. لم يعد لدي أدنى أمل في استجابة أو رد، بل حتى الأمل في ذلك، الأمل كان قد انتهى، وأصبح علي أن أعتبر الموضوع كأن لم يكن، وأن أجهز نفسي لقضاء الليلة في زنزانتي الجديدة تلك مثلما كنت أقضي الليالي في الزنازن القديمة، أفكر بلا هدف في لا شيء، حتى تتزغلل قوى عقلي وتنهار فأنام.
إنها لكارثة محققة.
صفحة غير معروفة