الرسالة الحادية عشرة رسالة في النابتة إلى أبي الوليد محمد بن أحمد بن أبي دواد

صفحة ٣

بسم الله الرحمن الرحيم

أطال الله بقاءك، وأتم نعمته عليك، وكرامته لك.

اعلم، أرشد الله أمرك، أن هذه الأمة قد صارت بعد إسلامها والخروج من جاهليتها إلى طبقات متفاوتة، ومنازل مختلفة:

صفحة ٧

فالطبقة الأولى: عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وست سنين من خلافة عثمان رضي الله عنه؛ كانوا على التوحيد الصحيح والإخلاص المخلص، مع الألفة واجتماع الكلمة على الكتاب والسنة. وليس هناك عمل قبيح ولا بدعة فاحشة، ولا نزع يد من طاعة، ولا حسد ولا غل ولا تأول، حتى كان الذي كان من قتل عثمان رضي الله عنه وما انتهك منه، ومن خبطهم إياه بالسلاح، وبعج بطنه بالحراب، وفرى أوداجه بالمشاقص، وشدخ هامته بالعمد، مع كفه عن البسط، ونهيه عن الامتناع، مع تعريفه لهم قبل ذلك من كم وحه يجوز قتل من شهد الشهادة، وصلى القبلة، وأكل الذبيحة؛ ومع ضرب نسائه بحضرته، وإقحام الرجال على حرمته، مع اتقاء نائلة بنت الفرافصة عنه بيدها، حتى أطنوا إصبعين من أصابعها، وقد كشفت عن قناعها، ورفعت عن ذيلها؛ ليكون ذلك ردعا لهم، وكاسرا من عزمهم؛ مع وطئهم في أضلاعه بعد موته، وإلقائهم على المزبلة جسده مجردا بعد سحبه، وهي الجزرة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا لبناته وأياماه وعقائله؛ بعد السب والتعطيش، والحصر الشديد، والمنع من القوت؛ مع احتجاجه عليهم، وإفحامه لهم، ومع اجتماعهم على أن دم الفاسق حرام كدم المؤمن، إلا من ارتد بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتل مؤمنا على عمد، أو رجل عدا على الناس بسيفه فكان في امتناعهم منه عطبه؛ ومع إجماعهم على ألا يقتل من هذه الأمة مول، ولا يجهز منها على جريح.

ثم مع ذلك كله دمروا عليه وعلى أزواجه وحرمه، وهو جالس في محرابه، ومصحفه يلوح في حجره، لن يرى أن موحدا يقدم على قتل من كان في مثل صفته وحاله.

صفحة ٨

لا جرم لقد احتلبوا به دما لا تطير رغوته، ولا تسكن فورته، ولا يموت ثائره، ولا يكل طالبه. وكيف يضيع دم الله وليه والمنتقم له؟!

وما سمعنا بدم بعد دم يحيى بن زكريا عليه السلام غلا غليانه، وقتل سافحه، وأدرك بطائلته، وبلغ كل محنته، كدمه الله عليه.

ولقد كان لهم في أخذه وفي إقامته للناس والاقتصاص منه، وفي بيع ما ظهر من رباعه وحدائقه وسائر أمواله، وفي حبسه بما بقي عليه، وفي طمره حتى لا يحس بذكره، ما يغنيهم عن قتله إن كان قد ركب كل ما قفوه به، وادعوه عليه.

وهذا كله بحضرة جلة المهاجرين، والسلف المقدمين، والأنصار والتابعين.

صفحة ٩

ولكن الناس كانوا على طبقات مختلفة، ومراتب متباينة: من قاتل، ومن شاد على عضده، ومن خاذل عن نصرته. والعاجز ناصر بإرادته، ومطيع بحسن نيته. وإنما الشك منا فيه وفي خاذله، ومن أراد عزله والاستبدال به. فأما قاتله والمعين على دمه والمريد لذلك منه، فضلال لا شك فيهم، ومراق لا امتراء في حكمهم. على أن هذا لم يعد منهم الفجور، إما على سوء تأويل، وإما على تعمد للشقاء.

ثم مازالت الفتن متصلة، والحروب مترادفة، كحرب الجمل، وكوقائع صفين، وكيوم النهروان، وقبل ذلك يوم الزابوقة وفيه أسر ابن حنيف وقتل حكيم بن جبلة.

إلى أن قتل أشقاها علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فأسعده الله بالشهادة، وأوجب لقاتله النار واللعنة.

إلى أن كان من اعتزال الحسن عليه السلام الحروب وتخليته الأمور، عند انتشار أصحابه، وما رأى من الخلل في عسكره، وما عرف من اختلافهم على أبيه، وكثرة تلونهم عليه.

صفحة ١٠