النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة (الجزء الأول): موسوعة تاريخية جغرافية إثنية دينية
تصانيف
وهذا إنما يعني «أن «موسى» الحقيقي الخارج من مصر، سليل الملوكية والنبالة، لم يسمع قط باسم «يهوه» ولم يصل قادش، بل قتل قبل ذلك التحول»، أما «موسى» الثاني الخيالي الذي يعبد «يهوه»، ويجهل كل شيء عن «آتون»، فهو الاختراع التوراتي الذي التبس بعقائد «مديان»، ونسب لشخص «موسى»، الذي تمت نسبته لبني إسرائيل، «وهنا تظهر الأسرة الوهمية الخيالية في الأسطورة لأول مرة، أما في الأصل فلم تكن هناك أبدا أسرة إسرائيلية، نبت فيها موسى» كما تقول الأسطورة.
لكن ذلك الخلاف الأصلي بين عنصرين متحدين، أحدهما عاش في مصر، وتأثر بها، والثاني كان في بداوة واضحة، أدى إلى انفصال العنصرين، عندما انقسمت مملكة سليمان بموته إلى مملكتين: إسرائيل في الشمال، ويهوذا في الجنوب. ولأن الجنوب هو الملاصق لمصر، فإن فرويد يقول: «نؤكد أن من بقي مقيما في البلاد (الفلسطينية) كان موجودا في الشمال، وأن من رجع من مصر استقر في الجنوب.»
44
أي إن هناك أسباطا لم يدخلوا مصر إطلاقا، كانوا يسكنون شمالي فلسطين، وظلوا هناك طوال تلك الأحداث ، وأسباطا دخلوا مصر وخرجوا منها، وهم الذين عاشوا جنوبي فلسطين، وزمن الملك سليمان تم توحيد أسباط الجنوب وأسباط الشمال في مملكة واحدة، أطلقت عليها التوراة «كل إسرائيل»، لكنهم ما لبثوا بموت سليمان أن انقسموا مرة أخرى، عندما عاد الشمال لينشق عن الجنوب، في مملكة عرفت باسم مملكة إسرائيل، بينما حمل الجنوب اسم مملكة يهوذا.
ولأن شخصا مثل ذلك النبيل المصري، كان لا بد أن ترافقه حاشية، فقد رأى «فرويد» أن تلك الحاشية كانت مصرية، والتي لا شك كان أفرادها أشد المخلصين لديانة «آتون»، وهي من شكلت بعد ذلك من عرفتهم التوراة باسم «اللاويين»، الذين جعلهم «موسى» المصري الحقيقي كهنة ديانته، واستمروا في عملهم بعد مقتله؛ لذلك «فإن اللاويين لم يكونوا من بني إسرائيل، بل كانوا حاشية مصرية لمصري عظيم»، وبمرور الزمن لن نجد أسماء مصرية في التوراة، إلا بين اللاويين، وقد ظل هؤلاء على وفائهم لذكرى قائدهم، وحافظوا على ميراثه، ولكنهم مع الاندماج في البدو الآخرين بالتمازج الذي حدث، كانوا أقلية، لكنها أقلية فاعلة؛ لأنهم كانوا الأكثر علما وتحضرا، «وقد صمم هؤلاء المصريون على التمسك بمصر، فظلوا يركزون على قصة الخروج من مصر، للتذكير بالأصل المصري، كما ظلوا يتمسكون بشخص «موسى» المصري الحقيقي، وبعادة الختان المصرية»، بينما على الجانب الآخر، كان الباقون يخترعون «موسى»، الوهمي السيناوي المدياني القادشي، لكنهم لم يتمكنوا من التخلي عن عادة الختان، لكن حتى ينزعوا عنها أصلها المصري، قاموا ينسبونها للآباء الأوائل من زمن البطرك إبراهيم، فجعلوه يختتن في التسعين من عمره! في علامة ميلودرامية رمزية، على تأخر دخول الختان إلى بني إسرائيل.
وهناك علامات يسوقها «فرويد»، تشير إلى تلك الأحداث الافتراضية، «فالكتاب المقدس يميل باستمرار لنفي أن «يهوه» كان إلها أجنبيا»، وهو أمر غريب، فهل كان ثمة شك في ذلك؟ إن «يهوه» يدون بيد أنبيائه مزاعمه بالتوراة، ويؤكد أنه كان إله البطاركة القدامى «إبراهيم» و«إسحاق» و«يعقوب»، رغم المعلوم أنهم كانوا يعبدون إلها ساميا كنعانيا باسم «إيل».
ثم علامة أخرى تتمثل في أمر عجيب إلى حد بعيد، فالشعوب جميعا تختار آلهتها، «لكن إله التوراة هو الوحيد الذي يختار شعبا بعينه ليتأله عليه». إن تلك الواقعة الفريدة في التاريخ الديني، تشير إلى ما حدث، فموسى قد اختار هؤلاء ومنحهم ديانته، وجعلهم بذلك شعبه، وهو ما يفسر الاصطلاح المتواتر «الشعب المختار»؟
مع علامات أخرى تشير إلى ما حدث، «فقصة ردة الشعب وعبادته العجل الذهبي، توضح خلافا حادا، أدى إلى قتل «موسى»، وارتداد الشعب عن ديانة «آتون»، كما نجد في حادثة تحطيم «موسى» لألواح الشريعة، رمزا آخر لنهاية ديانته»، وليس كما فسرتها التوراة بسذاجة شديدة، فقالت: إن «موسى» كسر الألواح نتيجة لغضبه، وهي المكتوبة بيد الله نفسه، ظل يكتب فيها أربعين يوما على الحجرين! (خروج، 32).
45
وجاء وقت ندم فيه أولئك الهمج على قتل قائدهم، وسعوا إلى نسيان جريمتهم، ولا شك أن ذلك تم أثناء اجتماع «قادش»، الذي عقد بين كافة الأطراف، ولا جدال أنه تم حوالي عام 1215ق.م. حسبما يرى فرويد،
صفحة غير معروفة