بقومه من «أور الكلدانيين» إلى كنعان، بعد أن أخربها البعوض على أهلها، لكن العقل يظل واقفا يتساءل ولا يتزحزح: لماذا تترك العائلة الإبراهيمية «أور» ذلك الموطن عريق الحضارة؟ والعقل يقف كذلك بالطبع؛ لأنه لم يقنع بهلاك «أور» بالذباب والبعوض، لأن «أور» ظلت قائمة بعد عهد النبي إبراهيم بما يزيد على اثني عشر قرنا آخر، وللعقل في ذلك حق مشروع وشرعي حيث لم يرد لهذه التفاصيل إشارات في القران الكريم، إضافة إلى الإشكال الحقيقي والأساسي المتمثل في تخصيص «أور الكلدانيين» موطنا للعشيرة الإبراهيمية، فالدولة الكلدانية قامت بين عامي 625-538ق.م، بينما النبي إبراهيم عليه السلام يعود إلى زمن أقدم من هذا الزمان، فقد عاش فيما يذهب الباحثون حوالي 1700ق.م
17
فيفصل بين زمنه وزمن الكلدانيين ألف عام تقريبا، وليس بين الملوك الكلدانيين نمارذة، ولا في «أور» نمارذة، ولا في تاريخ الملوك الرافدين نمروذ واحد، وهو مما يدعو إلى التشكك في المصدر الأول ومصداقيته، أقصد التوراة ، وكل من تبع هذا المصدر في دربه وزعمه أن موطن النبي إبراهيم عليه السلام هو «أور الكلدانيين» حتى لو كان من سلك هذا الدرب أعلام مثل المستر «فيلبي»، والمسيو «دي فو».
لكن قبل طرح رؤيتنا في حل مشكلة الموطن الأصلي للعشيرة الإبراهيمية، نجدنا وقد اضطرنا للوقوف مع «أور» أمور تنتج لزوما وتتأسس على ما ورد في كتب الأخبار الإسلامية، وهي وإن كانت خارج دائرة اهتمام هذا البحث، إلا أن لها أهميتها العامة، ولا يصح التغافل عنها عندما تفرض نفسها.
وأول ما يلفت النظر في روايات الإخباريين، هو اسم الطاغية الذي ادعى الألوهية، أقصد «نمروذ بن كنعان»، وقد سبق وأشرنا إلى أنه لم يرد في قوائم ملوك العراق القديم، أما الأهم فهو كونه «ابن كنعان». والإخباريون المسلمون هنا أكثر مجاملة للعبريين من التوراة، التي قسمت شعوب الأرض عبر نسل النبي نوح بعد الطوفان، فقالت: إنه أنجب «سام» الذي جاء من نسله الشعب العبري، و«حام» وأبناء حام هم: «كوش» الذي أنسل الأحباش وسمر البشرة عموما، و«مصرايم» الذي أنجب المصريين، و«كنعان» الذي أنجب الكنعانيين، ثم تقول: «وكوش ولد نمروذ الذي ابتدأ يكون جبارا في الأرض، وكان ابتداء مملكته بابل وأورك وأكد وكلنة في أرض شنعار» تكوين 10: 6-10.
والمعلوم أن التوراة تصب لعنتها فوق رءوس أبناء حام عموما، من مصريين وكنعانيين (فلسطينيين)، لكنها عادة تخص «كنعان» باللعنة باعتبار الكنعانيين هم سكان فلسطين الأصليون، والمطلوب إبادتهم لصالح النسل العبراني من أبناء سام. ومن هنا نعرف سر البركات التي تواتر استنزالها بالتوراة على رءوس النسل السامي، لكنها هنا تقول: إن نمروذ الجبار هو من أبناء كوش، ويبدو أن الإخباريين المسلمين لكثرة الاعتياد على سب كنعان، رأوا من جانبهم أن يكون نمروذ الكافر الجبار ابنا لكنعان بالمرة، طالما قد تم اختياره كمصب لكل اللعنات، دون إدراك حقيقي لما يترتب على ذلك من فهم في ذهن المسلم العربي!
وهكذا يكون عدو النبي إبراهيم اللدود هو ابن كنعان، وكفى بذلك مبررا للاستيلاء على أرض كنعان من قبل العبريين، ولا ملامة. بل إنهم بذلك ضامنون لتعاطف كل المؤمنين مع النبي إبراهيم، ضد مدعي الألوهية ابن كنعان الكافر ابن الكافر! أو التعاطف مع النسل العبراني ضد أهل البلاد، والعجيب أن يكون ابن كنعان ملكا في العراق، ويهجر النبي بلاده ليلجأ إلى بلاد أبيه كنعان في فلسطين!
أما أصل اللعنة وسرها التوراتي، فيرد في قصتها التي تقول: إنه بعد هبوط النبي نوح وأبنائه من الفلك.
ابتدأ نوح يكون فلاحا، وغرس كرما وشرب من الخمر وتعرى داخل خبائه فأبصر حام عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجا، فأخذ سام ويافت الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره، علم ما فعل به ابنه الصغير، فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله سام وليكن كنعان عبدا لهم.
تكوين 9: 20-26
صفحة غير معروفة