عندما تولى عمر رضي الله عنه الخلافة كانت ماديات الدولة لا تزال ضعيفة وأحوال الناس المالية لا تزال قليلة، لذا كانوا أقرب إلى الحياة البسيطة الهادئة، والرضا بكل ما يأتي، والصبر على الشدائد، وقبول أوامر الولاة والأمراء، إضافة إلى انشغالهم بالجهاد والسير إلى الثغور والانطلاق من وراء الفتوحات في سبيل الدعوة ونشر الإسلام، فلما توسعت الدولة، وجاءتها الغنائم من كل جهة، وزعت الغنائم على المقاتلين، وأعطيت الأموال إلى الناس حتى كثرت بأيديهم، وبطبيعة الحال فإن سيدنا عثمان كان يعطي ويوزع ما في بيت المال لكثرة ما يدخل، ولحاله وكرمه المعروفين، بل كان أحيانا يعطي من ماله الخاص إن لم يكن في بيت المال من فائض، وهذا ما جعل الحال تتغير تدريجيا عن أيام عمر حتى أواخر عهد عثمان حتى زادت زاوية التغير انفراجا ووصلت إلى درجة واسعة نسبيا في نهاية أيام عثمان.
كان عمر بن الخطاب قد منع كبار الصحابة من الخروج من المدينة، وأبقاهم بجانبه ليكونوا مستشارين له، وحتى يبقوا أسمى من مغريات الدنيا التي تعترض سبيلهم في البلاد المفتوحة، وخوفا على المسلمين الذين يدخلون في الإسلام جديدا من أهل الأمصار من أن يفتنوا بهؤلاء الصحابة فيقولون : هؤلاء صحابة سيد الخلق، وصحابة رسول الله و... وقال لهم رضي الله عنه : كفاكم ما جاهدتم به مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما جاء عثمان بن عفان سمح لهم بالانسياح في أرض الله، والانطلاق أينما شاؤوا، وقد زاد حالهم وكثرت أملاكهم، وبنوا الدور في الأمصار، فقد بنى الزبير بن العوام دارا له بالبصرة وغيرها في الكوفة ومصر، وبنى طلحة بن عبيد الله دارا له في الكوفة، وكانت ينتقلون بين أملاكهم وضياعهم، وهذا بالإضافة إلى ما بناه عبد الرحمن بن عوف في المدينة وزيد بن ثابت وغيرهم، وارتبط أهل الأمصار بمن كان يتصل بهم ويحتك معهم من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وهكذا تغير المجتمع في عهد عثمان بن عفان، إلا أنه رضي الله عنه لم يغير ولم يبدل، ولم يحدث جديدا، ولم يبتعد عن سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عن نهج الشيخين من قبله، وإنما لينه وحبه لأقربائه وكرمه في العطاء قد أطمع فيه فكثر القول، ووجود الموالي والأرقاء في المدينة والصحابة خارجها قد شجع أصحاب الأهواء البدء في العمل بالخفاء، وكثرة الأموال في أيدي الناس واكتفاؤهم قد جعل الألسنة تتكلم وبدأ الحديث عن الخليفة نقطة انطلاق والتهديم في المجتمع بدء ارتكاز.
صفحة ٤٦