ذهب سمعان إلياس - حسب عادته - إلى العمروسة لمشتري الحبوب، وصحب معه نجله سليم الذي أحب مرافقته إلى تلك القرية الجميلة، فلما أطلا عليها من بعيد شاهدا الأهالي يشتغلون بالحصاد، وبعضهم على البيادر (الأجران) يذرون القمح، فوقع ذلك المنظر أحسن وقع في نفس الشاب، وقال: ما أطيب أهل هذه القرية وأشد أجسامهم وأصح أفهامهم! فإنني لا أنسى مطلقا ما سمعته في السنة الفائتة من الشيخ صالح، الذي اجتمعنا به في منزل صاحبنا يوسف الهلالي، فقال: نعم يا بني، إن الطبيعة خصت هذه القرية بجانب عظيم من الجمال، وأهلها أهل دعة وإخلاص رغم ما يبثه فيهم ذوو المآرب والغايات. واعلم يا سليم أن قضية العصابات التي اتهم فيها أصحابنا آل الهلالي وأبناء قريتهم، كان مثيرها الشيخ أحمد سلمان شيخ القرية المجاورة للعمروسة، ولولا مساعدة القائمقام لكان الآن ذلك الشيخ مقيدا بالسلاسل الحديدية. - نعم هو لكذلك.
سمعا هذا الصوت من بستان فوق الطريق فبغتا، ثم التفتا إلى فوق، فإذا بالشيخ صالح وفي يده بعض الفاكهة أعدها لهما، فبادراه بالسلام ورحب بهما، وقال: علمت بقدومكما اليوم فبادرت إلى هذا المكان لموافاتكما والترحيب بكما، فترجلا عن جواديهما وصعدا إلى البستان حيث جلسا مدة يتجاذبان أطراف الحديث مع الشيخ، وعلما منه أن أهل القرية يوجسون خيفة من عصابة شريرة تعبث فسادا في تلك النواحي، وهم لا يعرفون إذا كان أفرادها من المسيحيين أو المسلمين، وقد وقع أحد أبناء القرية في أيدي رجال العصابة فأوسعوه ضربا وسلبوه كل ما كان يحمله، وتركوه عاريا بين حي وميت، ويظن أهل القرية أن العصابة مسيحية جاءت للانتقام منهم؛ ولهذا السبب جئت إلى هنا لأنبهكم لتكونوا على حذر تام فيما تتكلمون، وتساعدونني على تهدئة الخواطر الثائرة.
توجه سمعان إلياس وابنه سليم إلى منزل صديقهما القديم يوسف الهلالي، فرحب بهما هذا الصديق ونجله وأحلاهما على الرحب والسعة، ولكن سمعان لحظ أن هنالك شيئا من الفتور لم يكن يشعر به قبلا في بيت صديقه.
وفي مساء ذلك اليوم توافد الضيوف على منزل الهلالي - حسب العادة - وتحامل بعضهم على المسيحيين غير مراعين أدب المجالس وشعور الضيفين، فكتم سمعان غيظه، وقال لعل ذلك مما جرى لابن قريتهم وهم يحسبون أن المسيحيين فعلوا به ذلك، ولكن الشاب سليم لم يتمالك أن قال: يظهر أن بعض الإخوان لا يعلمون أننا مسيحيان، ونحن ننتظر أن يكرمنا إخواننا المسلمون، كما نكرمهم لو كانوا ضيوفنا ويحبوننا كما نحبهم؛ لأننا نعتقد أنه لا فرق بين مسلم ومسيحي، بل الله والوطن للجميع، ونحن يجب أن نكون كاليد اليمين واليد اليسرى تعاون الواحدة منهما الثانية.
فسر الشيخ صالح بهذا الكلام، وقال «أصبت»، ولكن أحد الحاضرين تهجم على الشيخ وسليم، وقال: «لا، بل إن المسلمين كالرأس والمسيحيين كالحذاء المرقع.»
فنظر الشيخ إليه شذرا وانتهره قائلا: «اسكت أيها الغبي الجاهل! فأنت عدو المسلمين وخزي وعار على الأمة والدين، فلولا أمثالك لكان الإسلام عنوان فخار لنا بين الأمم لا عنوان التأخر والانحطاط، كما يزعم الأجانب عنا والدين براء مما تزعمون وتعملون، لو كان الدم العربي يجري في عروقك لهزتك الأريحية، وجدت بدمك في سبيل ضيف كريم حل في منزل أعز رجل في قريتنا، وله منزلة خاصة في قلوبنا، وضيفنا صديق قديم لم يبادئنا العداء، ولا رأينا منه غير المودة والإخلاص.»
وحدث شغب بين الحاضرين وتكدر صاحب الدار وهم بطرد الرجل لولا أن تداخل سمعان، خشية أن يتفاقم الشقاق، فقال: أخشى أن يكون صاحبنا قال ما قاله متأثرا بأسباب خاصة، والإنسان قد يشتم أخاه وأعز الناس لديه في مثل هذه الأحوال، فأرجو أن ننتهي عند هذا الحد، وانفض الاجتماع تلك الليلة ولم يحدث حادث آخر، ولكن الحاضرين لم يكونوا على مثل ما عهدهم سمعان، فاستغرب الأمر وعزم على ألا يطيل الإقامة في العمروسة هذه المرة، واتفق مع صاحب الدار على أن ينهضا مبكرين جدا في صباح اليوم التالي ويذهبا إلى البيادر لمعاينة الحبوب.
وفي صباح اليوم الثاني نهض سمعان إلياس وصاحب الدار وابنه وساروا إلى البيادر - ولم تكن بعيدة عن المنزل - وتركوا سليما نائما، ولم يكن أحد من الخدم في المنزل؛ إذ ذهب كل في سبيله.
واستيقظ سليم ونهض ليغسل وجهه ويلبس ملابسه ويلحق بأبيه، فإذا به يسمع وقع أقدام لطيفة في غرفة محاذية، وما أتم لبس ملابسه حتى سمع نقرا خفيفا على الباب، فقال «تفضل»، وإذا به يرى فتاة رائعة الجمال لم تفتح العين على أتم منها شكلا، وألطف قواما، وأصح عافية، يكاد الدم يتدفق من خديها والضياء من عينيها وجبينها الوضاء، دخلت الغرفة وحيت أجمل تحية، ثم قالت: «عفوا يا سيدي إذا أزعجتك.»
تلعثم سليم في بادئ الأمر؛ إذ خيل إليه أن الفتاة دخلت على غير علم بوجوده، ثم تمالك روعه، وقال بعد أن رد التحية: «أخشى أن يكون وجودنا سببا لتعبكم وإزعاجكم، وأظن أن والدي ذهب مبكرا فظننت أنني رافقته، فدخلت على غير علم بوجودي، فأنا آسف لذلك جدا.»
صفحة غير معروفة