المتوالي الصالح

وديع أبو فاضل ت. 1373 هجري
19

المتوالي الصالح

تصانيف

وبعد أن استقر المقام بالضيوف، رجا يوسف الهلالي أن يسمح له بمخاطبة ربة الدار، فجاءت من الغرفة المجاورة؛ حيث كانت مع هيفاء وأمها، فجلست مع الرجال، ثم خاطبها يوسف الهلالي قائلا: «أتسمحين لي يا سيدتي أن أعهد إليك بابنتي الوحيدة التي أحبها كأخيها العزيز، ولقد جئت بها إليك على غير علم أهلي؛ لأنهم يرغبون في تزويجها بمن لا تريد ولا أريده أنا لها، وإن يكن ظاهر الرجل على ما يرغب الآباء. وابنتي الآن راغبة في الدخول إلى مدرسة تتلقى فيها مبادئ العلم، وتكون محافظة على أخلاقها، وأرجو منك أن توصي رئيسة المدرسة ألا تتعرض لدينها، وتعاملها بالرفق واللين؛ لأنها لم تدخل المدارس بعد، ولا ألفت النظم التي تسير عليها، ولكنها إذا تعودت الحياة المدرسية أرجو أن تكون في مقدمة البنات طاعة لمعلماتها واجتهادا في دروسها.» فوعدته السيدة خيرا، وقالت : ثق أنها تكون كابنتي، وسأبقيها عندي بضعة أيام لأعدها لدخول المدرسة التي ستفتح قريبا.

عاد يوسف الهلالي وزوجته في اليوم التالي من زحلة سعيدين بما لقيا من الإكرام، كئيبين لفراق ابنتهما التي كانت زينة منزلهما، وقرة أعينهما، وسلوة والدتها طول النهار.

وبعد ذهابهما فكرت أم سليم في وسيلة تسر بها الفتاة وتسري عنها، فقالت: هيا بنا يا بنيتي نذهب إلى الكروم ولا موجب لوضع الحجاب، فتوجهين إليك الأنظار هنا في هذه البلدة المسيحية، فهاك «طرحة» ضعيها على رأسك، فإذا رآك أحد ظنك إحدى قريباتي أو من بنات الجيران، فمانعت أولا ثم اقتنعت بعد أن أفهمتها أم سليم أنها سوف تفعل كذلك في المدرسة، فلا تكون منفردة في شكلها وزيها.

ذهب سليم أمام والدته وضيفتها الحسناء الصغيرة إلى الكرم، وهو يكاد لا يصدق أن ما يراه حقيقة بل يكاد يعتقد أن ما يراه حلم من الأحلام الجميلة التي تتلوها اليقظة المرة، فسار سابحا في عالم الخيال والأوهام، وسبق والدته إلى الكرم، وقصد جهة ظليلة، فلما وصلت والدته وضيفتها إلى هنالك وجدتاه قد أعد لهما حجرين كبيرين للجلوس وبعض العنب اللذيذ للأكل، وقدم لهيفاء عنقودا من العنب اللذيذ، تناولته منه بأيد ترتجف، ثم قام الثلاثة يجولون في الكرم، ويقطفون ما لذ وطاب من العنب إلى أن تعبت أم سليم، فقالت: سأجلس قليلا تحت ظل هذه الشجرة، فسيرا واجمعا لنا قليلا من العنب اللذيذ للبيت، فتناول سليم السلة وسار وهيفاء تتبعه كظله، فلما خلا لهما الجو وأبعدا عن أم سليم نظر الواحد منهما إلى الآخر، وكأن السعادة والهناء تسطع في عيني كل منهما فتبسما، وقال سليم: إنني سعيد مثلك بسماح والديك لك بدخول المدرسة، وسأبذل الجهد في هذين اليومين - إذا شئت - لأساعدك على الاستعداد في الدروس التمهيدية؛ حتى تدخلي صفا أعلى إذا أمكن، ثم أخذا يجولان بين الدوالي ويتبادلان إهداء ما لذ وطاب من العنب، ثم أطلا على «الصفة» من أعالي شاهق، فنظرا الناس يذهبون بالمئات إلى تلك الجهة الجميلة وقد غصت القهوات بمن فيها، فقال: سنذهب غدا إلى تلك الجهة فتشاهدين ما يسرك.

وفي اليوم التالي جاءت أم سليم وهيفاء إلى النهر صباحا وتبعهما سليم، فلما لحق بهما كانتا قد وصلتا إلى آخر قهوة، فأحبت أم سليم أن تجلس هنالك للراحة عند صاحب القهوة وهو من معارفهم، فامتنعت هيفاء عن الجلوس، وقالت: إنها تفضل أن تسير بجانب الماء قليلا فرافقها سليم وجلست أم سليم تستريح.

سار سليم وهيفاء بين الأشجار الباسقة وهما يسمعان خرير المياه، ويتأملان بالشلالات الصغيرة التي يحلو منظرها للعين، ثم ينظر الواحد إلى الآخر غير مصدق أنه يمشي وإياه على انفراد، وكم تكلمت العيون في تلك اللحظات، وطابت نفساهما بهذه النزهة القصيرة التي مرت كأنها طرفة عين، وبعد أن مشيا قليلا جلسا على صخرة كبيرة، وأخذ سليم يشرح لهيفاء أحوال المدارس، وما قد تلاقي في بادئ الأمر من الصعوبات، ولكن كل ذلك يزول حينما تألف الحياة المدرسية، وعادا بعد قليل إلى حيث كانت والدة سليم، وقد امتلأ قلباهما بالحب، ولكن الحياء منعهما من مفاتحة بعضهما البعض بما كان يتضرم في الفؤاد من لواعج الغرام.

وبعد ذلك بثلاثة أيام نزلت أم سليم وابنها إلى بيروت ومعهما هيفاء، فدخلت مدرسة عالية، وعاد سليم إلى مدرسته، وصرفت أم سليم نحو الشهرين في المدينة عند شقيقها وهي لا تفتر تزور هيفاء كلما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وتشجعها وتوصي بها، وكل مرة تسمع من مديح المعلمات وإعجابهن فيها ما زادها تعلقا ولها حبا وبها ولعا، وقبلما عادت إلى زحلة ذهبت لتودع هيفاء، فلما قابلتها هيفاء وعلمت بما تنوي بكت، وقالت: أنت لي كوالدة ثانية، ففراقك يعز علي كثيرا. فأخذتها أم سليم بين ذراعيها، وضمتها إلى صدرها، وقبلتها كما تقبل الوالدة ابنتها، وعلمت من رئيسة المدرسة أنها كانت أكثر بنات المدرسة اجتهادا وأوفرهن ذكاء، حتى إنها اجتازت صفين بمدة شهرين، وربما نقلت إلى الصف الثالث بعد امتحان نصف السنة.

وطلبت أم سليم الإذن لهيفاء لتأخذها معها للسوق لتشتري بعض ما يلزمها، ولكي تنزهها قليلا؛ لأنها قالت إنها تكون متعبة من كثرة الدرس، فسمح لها بذلك، وكان سليم أيضا حرا طليقا في ذلك اليوم، فنزل الثلاثة إلى السوق، ثم ركبوا عربة إلى «الحازمية»؛ حيث صرفوا ساعتين مضتا على سليم وهيفاء كدقيقتين، ثم عاد كل إلى مدرسته وهو لا يفكر إلا باجتماع آخر.

الفصل السادس

الجريمة

صفحة غير معروفة