فابتسمت الكبيرة عن غيظ وقالت: إن من يسمع كلامك هذا لأول مرة يظنك محقة فيه حتى إذا تروى ودقق البحث علم أنك مخطئة، فإن كل علم تدرسينه من هذه العلوم يقوي إدراكك، ويسدد رأيك، فيؤهلك لأداء عملك، وإن لم يتعلق به مباشرة، فإنك تصيرين ربة منزل تديرين شئونه، وتتوقف عليك وفرة ثروته، وحفظ صحة من به، وهو عمل جليل يحتاج إلى الحكمة والروية والمعرفة ، تحتاجين فيه إلى قراءة بعض الكتب والمجلات النافعة التي تساعدك على أداء أعمالك، فإن لم تتعلمي اللغات وقواعدها وأساليبها، فربما فهمت من تلك الكتب غير المقصود، فأخطأت المرمى، وأسأت من حيث أردت أن تحسني، لا سيما أن درس اللغة العربية والشغف بقراءة أساليبها الرقيقة يقويان ذكاءك ويهذبان ألفاظك، فتحسن محاضرتك، ويطيب الحديث معك.
أما درس الحساب: فهو يقوي تصورك، ويساعدك على معرفة النفقات، والاقتصاد فيها إن دعت الحاجة إلى ذلك، ولا يخفى عليك أن الإنسان مهما تقدم في هذا العلم فهو عرضة للخطأ فيه، فيلزم الالتفات إليه بوجه خاص، وهو مع ذلك يعودك التيقظ والاحتراس في أعمالك؛ لما يترتب على الهفوة الصغيرة فيه من كبير التعب، وهو أيضا يقوي تصورك، ويسدد رأيك؛ لما يستلزمه من إعمال الفكر.
أما تقويم البلدان: فهو يعرفك اختلاف الأجواء وتأثيرها في النفوس والأشياء، فتستعينين بذلك على إصلاح منزلك، وكيفية ادخار الأشياء فيه حتى لا تتلف، هذا فضلا عن أنه يساعدك على فهم ما تقرئينه من الحوادث وتصور حصولها.
وتعرفين من التاريخ أخبار الأمم السالفة وما تركوه من الأثر وأسباب تقدم بعض الناس وانحطاط الآخرين، فتعلمين من ذلك عواقب الأمور، وتتبعين ما ينفعك، وتجتنبين ما يضرك على علم منك بعاقبته، ويعلمك الرسم تحسين المنظر وحسن الترتيب، وهو أليق بك؛ لما تقومين به من ترتيب أثاث المنزل.
هذا فضلا عن أن اشتغالك بهذه العلوم يمحو صدأ الجهل عن عقلك، فتعرفين النافع من الضار، وهو يكفيك شر ضياع الوقت سدى في اللعب أو فيما عساه أن يتلف أخلاقك، ونجاحك في العلم يدل على ذكائك واستحقاقك للقيام بعملك الجليل، وهو أمان لك من الفاقة إن احتجت إليه، وإن استغنيت عنه فهو حلية لك، وبهاء به تهذب ألفاظك، وتحسن مجالستك، ولو كان كل إنسان إنما يتعلم ما يتعلق بعمله مباشرة لترك التلاميذ كثيرا من دروسهم لعدم تعلقها بعملهم.
هؤلاء أطباء أرضنا كانوا تلاميذ يدرسون ما ندرس الآن من علوم اللغات، وتقويم البلدان، والتاريخ وغير ذلك، فهل كان يرجو التلميذ منهم أن يبرئ مريضا بما يحفظه من أسماء الجبال، والبحار، أو يصرف أمامه فعلا فيخف ألمه، أو يكلمه بلغة أجنبية فيثوب إليه رشده؟ كلا، إنما يتعلم التلميذ تلك العلوم؛ ليتسع نطاق عقله، ويمكنه القيام بعمله، حتى إذا نال شهادة الدراسة الابتدائية دخل المدارس الثانوية؛ ليزداد علما بما يتعلق بعمله، وما لا يرتبط به مباشرة من نحو، وصرف، وإنشاء، وآداب اللغة العربية، وحفظ كلام الشعراء الماضين، وسيرهم، وغير ذلك مما لا تعلمين، فما علاقة ذلك بعلم الطب؟ وهل كان ذلك إلا لتقوى مدارك الطلبة؛ ويمكنهم فهم دروسهم، ثم قيام الطالب بأعماله قيام رجل استنار عقله بالمعارف، وعرف في صغره ما لم تعرفه الشيوخ بالتجارب، وكذلك الجندي وغيره من موظفي الحكومات لا يقتصرون على ما يتعلق بأعمالهم.
فأنت إن اقتصرت على ما تعرفين وهي مبادئ أولية لم تكد تثبت في ذهنك، فلا تلبث أن تذهب، وتصيرين جاهلة كغيرك ممن لم يدخلن المدارس، ولم يتعلمن شيئا، فبئس المنزل منزل تقوم بشئونه جاهلة مثلك، فهي تسبب خرابه من حيث لا تشعر.
قالت الصغيرة: لقد علمت من كلامك ضد ما كنت أعتقد، وعرفت خطئي فيه، فهل لك أن تساعديني على المذاكرة؛ لأتلافى ما كاد يفسده الطيش، قالت: كيف لا أبذل في ذلك النفس والنفيس، وإنما جعل الإنسان في هذه الحياة الدنيا ليفيد بني جنسه ويستفيد منهم، وأنت أقرب الناس إلي وأولاهم بمساعدتي لك. (36) حلم معن ابن زائدة
لما تولى معن بن زائدة إمارة العراق، وكان قد اشتهر بالحلم والكرم، أتاه أعرابي يختبر حلمه، فدخل عليه دون أن يؤذن له، فلما مثل بين يديه قال له:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة
صفحة غير معروفة