وقد جاء في المحيط: «قمش القماش يقمشه قمشا» جمعه من ها هنا وها هنا، والقماش ما على وجه الأرض من فتات الأشياء، وتقمش الرجل أكل ما وجد وإن كان دونا، فإحياء لذكر الرازي، واعترافا بجهود المحدثين وفضلهم على علم التاريخ؛ نرى من الواجب أن نسمي أول خطوات المؤرخ المدقق المنقب التقميش، فنقول: على المؤرخ قبل كل شيء أن يعنى بتقميش الأصول؛ لأنه إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها.
والآن وقد ثبت لدينا وجوب التقميش، ننتقل إلى النظر في كميته فنتساءل: أيجب أن نجمع كل الأصول أم نكتفي ببعضها؟ وبطبيعة الحال، يصبح هذا البعض ما يسهل علينا الوصول إليه - ما قد نجده مثلا في البلدة التي نقيم فيها أو في أقرب المكاتب إلينا - نتساءل فنجيب: إذا كانت غاية المؤرخ الوصول إلى الحقيقة؛ فالحقيقة هي كل الحقيقة، لا بعضها ، وهي وحدة تامة لا تتجزأ.
أوليس مما يثلج الصدر ويبهج النفس أن يكون علماء الحديث قد سبقوا الغرب في هذا أيضا فنوهوا به؟ قال الإمام الحافظ مفتي الشام وشيخ الإسلام الشيخ تقي الدين الشهرزوري في مقدمته الشهيرة، وبمناسبة الكلام في معرفة آداب طالب الحديث:
3 «ليكتب وليسمع ما يقع إليه من كتاب أو جزء على التمام ولا ينتخب. فقد قال ابن المبارك، رضي الله عنه، ما انتخبت على عالم قط إلا ندمت، وروينا عنه أنه قال: لا ينتخب على عالم إلا بذنب، وروينا أو بلغنا عن يحيى بن معين أنه قال: سيندم المنتخب في الحديث حين لا تنفعه الندامة.»
ومما لا بد من الإشارة إليه، قبل اختتام هذا الفصل، مساس الحاجة في العالم العربي اليوم إلى المشتغلين في التقميش في شتى العلوم العربية، ولا يختلف اثنان، فيما نعلم، في أن علماء العرب اليوم يعيشون في القرن العشرين، وإنهم مع احترامهم لما أنتجه السلف الصالح، ومفاخرتهم به، ينوون النهوض بثقافتهم وتراثهم القومي، إلى مستوى الأمم الرقية كي يتمكنوا من خدمة العلوم التي يشتغلون بها، ومن السير مع زملائهم الغربيين في مضمار التقدم والعمران. فالعلوم العربية اليوم في بدء نهضة مباركة، وعلماء العرب في بدء عمل عظيم. فليس أفيد والحالة هذه من الاشتغال في التقميش إن في اللغة أو في التاريخ أو في الفلسفة أو في الفنون العربية.
والمجال واسع من هذا القبيل. فإنه بإمكان البعض أن يتعاضدوا في تأسيس أو تشجيع المكتبات العمومية، وفي مقدور البعض الآخر أن يعنوا في التفتيش عن المخطوطات العربية في جميع المواضيع، ومن المستحب أن يقوم البعض في نشر مجلة أو مجلات ببليوغرافية، أو في نشر فهارس بعض المكتبات العمومية والخصوصية.
وقد قلنا، منذ عشرين سنة، عندما بدأنا بنشر الأصول العربية لتاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا - قلنا، ولا نزال نقول: إن مؤرخي العصر الحاضر، وإن حسبناهم على مستوى واحد مع رصفائهم في العصور السالفة، فهم يفوقونهم، بما توافر لديهم من المصادر والمراجع الأولية، التي لم يتسن لأولئك الأسلاف الوقوف عليها.
الباب الثاني
العلوم الموصلة
لا بد للمؤرخ العصري المدقق، من ولوج باب آخر، كي يتمكن من الوصول إلى الحقيقة. عليه أن يقلب ما قمش وينعم النظر فيه؛ ليرى إذا كان بإمكانه أن يدرك كنهه فيستعمله في تشييد ما يبني من صروح التأريخ، وإذا فعل سرعان ما يشعر بحاجته إلى ما نريد أن نسميه بالعربية العلوم الموصلة، والاستعارة في هذه التسمية من علم التفسير؛ فقد أجمع المفسرون على وجوب التمكن من العلوم الموصلة إلى علم التفسير قبل الشروع في فهم القرآن الكريم، وبيان معانيه، واستخراج حكمه وأحكامه، والعلوم الموصلة في عرف المفسرين إلى علم التفسير هي علم اللغة، وعلم النحو، وعلم التصريف، وعلم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع، وعلم القراءات، وأسباب النزول، وأحكام الناسخ والمنسوخ، وأخبار أهل الكتاب، وعلم أصول الفقه، وعلم الجدل.
صفحة غير معروفة