وثيقة الحاج أمين أفندي الحسيني قطعة من الورق الصكوكي القديم، يبلغ طولها 27 سنتمترا ولا يتجاوز عرضها ال 14، وهي مكتوبة بالحبر الأسود الإستانبولي، وموجهة من محمد شريف «حكمدار بر الشام» في عهد الحكومة المصرية إلى السيد أحمد أغا دزدار متسلم القدس الشريف آنئذ، وهي مؤرخة في 24 ربيع الأول سنة 1256ه، الذي يوافق 27 أيار سنة 1840م، وهذا هو نصها بالضبط:
افتخار الأماجد الكرام ذوي الاحترام، أخينا السيد أحمد أغا دزدار متسلم القدس الشريف حالا: إنه ورد إلينا أمر سامي سر عسكري مضمنه صورة إرادة شريفة خديوية صادرة لدولته يعرب مضمونها العالي أنه حيث قد اتضح من صورة مذاكرة مجلس شورى القدس الشريف بأن المحل المستدعين تبليطه اليهود هو ملاصق إلى حائط الحرم الشريف، وإلى محل ربط البراق، وهو كائن داخل وقفية حضرة أبو مدين (قدس سره) وما سبق لليهود تعمير هكذا أشياء بالمحل المرقوم، ووجد أنه غير جائز شرعا، فمن ثم لا تحصل المساعدة لليهود بتبليطه، وأن يتحذروا اليهود من رفع الأصوات وإظهار المقالات ويمنعوا عنها، فقط يعطي لهم الرخصة بزياراتهم على الوجه القديم، وصادر لنا الأمر السامي السر عسكري بإجراء العمل بمقتضى الإرادة المشار إليها، فبحسب ذلك اقتضى إفادتكم بمنطوقها السامي لكي، بوصوله، تبادروا لإجراء العمل بمقتضاها المنيف يكون معلومكم في 24 ر 1 سنة 256 محمد شريف.
جرنال 368 نمرة 39
أصلية إذا أم مزورة؟ نقول: لا بد لنا للوصول إلى الحقيقة في مثل هذه الأحوال من تفحص هذه الوثيقة التاريخية من وجهتيها الخارجية والداخلية، فنتذرع بما يسميه المؤرخون الدليل الظاهري والدليل الباطني. فلنبدأ بالظاهر الملموس ولندقق بالورق أولا ثم ننتقل بعد ذلك إلى الحبر والقلم فالخاتم، فعادات المراسلة في ذلك العهد، فاللغة والأسلوب.
أما ورق هذه الوثيقة فإنه ورق الحكومة المصرية بالذات؛ إذ إنه صكوكي قوي يتفق من حيث تركيبه الكيماوي وتوزيع أليافه، وتمغته الشفافة مع الألوف المؤلفة من وثائق الحكومة المصرية، في ذلك العهد التي لا تزال محفوظة في سراي عابدين الملكية، وفي جامعة بيروت الأميركية، وفي خزانات المؤسسات والبيوتات الكبيرة في مصر، وفي الأقطار الشامية، وحبر هذه الوثيقة هو حبر وثائق الحكومة المصرية في ذلك العهد، وأكثر الوثائق الصادرة عن حكام ذلك العصر كانت تكتب بالحبر الإستانبولي، وهو مزيج كيماوي بسيط للغاية ومؤلف من كمية معينة من الكاربون التجاري، وقدر محدود من الصمغ والماء، وبإمكان من يود التأكد من هذا الأمر، أن يتيقنه بالمكروسكوب أولا، ثم إن أراد بواسطة التحليل في المختبر، ولدى التدقيق بالمكرسكوب والنظر في الأثر الذي تركه القلم في خط هذه الوثيقة وجدنا أنها كتبت بقلم قصبي مما يتفق مع عادات الكتاب والنساخ في دواوين ذلك الزمن، وقل الأمر نفسه عن الخط، فإنه من النوع الذي شاع في دواوين الحكومة المصرية ومجالسها، الخط في عهد محمد علي باشا وابنه إبراهيم.
وليس في عنوان هذه الرسالة «افتخار الأماجد الكرام ذوي الاحترام أخينا السيد أحمد ... إلخ»، أو في خاتمها «لكي، بوصوله تبادروا لإجراء العمل بمقتضاها المنيف يكون معلومكم.» نقول ليس في عنوان هذه الرسالة أو في خاتمها من حيث المفردات المستعملة أو الأسلوب ما يوجب الشك في أصليتها.
هذا، وفي الانتقال فجأة من العنوان إلى الغرض المقصود «إنه ورد لنا أمر سامي ... إلخ»، وغض النظر عن التحية التي كانت ترد في غالب الأحيان، بعد العنوان وقبل عرض الغرض المقصود، كقول عبد الله باشا مثلا، حينما خاطب متسلم بيروت وأعيانها سنة 1241ه: «بعد التحية والتسليم بمراسم الإعزاز والتكريم المنهي إليكم ... إلخ»؛ نقول: إنه في الانتقال فجأة من العنوان إلى الغرض المقصود وفي إهمال التحية، دليل آخر على صحة هذه الرسالة وعدم تزويرها. فإن الولاة والحكام في الأقطار الشامية، قبل إبراهيم باشا ومحمد شريف باشا وبعدهما، كانوا شديدي التمسك بالتحية المشار إليها أعلاه في مراسلاتهم الرسمية مع متسلمي المدن وغيرهم من موظفي الحكومة.
ونرى، بعد هذا كله في جهل كاتب هذه الرسالة لقواعد اللغة العربية، دليلا آخر نستأنس به على صحتها وأصالتها؛ فكتاب الدواوين في النصف الأول من القرن الماضي في مصر والشام والعراق، كانوا يجهلون قواعد لغتهم ويكثرون في بعض الأحيان من استعمال المفردات الأعجمية، عند مساس الحاجة إليها، ولا يستثنى من ذلك إلا ديوان حاكم لبنان الأمير بشير الشهير.
وهي، لعمري حقيقة ناصعة تبدو للباحث حالما يرجع إلى المخابرات الرسمية المحلية في ذلك العهد، ويبدأ بتفحصها واستشفافها، وطريقة التاريخ هذه الوثيقة، هي الطريقة المتبعة في جميع أوراق الحكومة المصرية في ذلك العصر، كما أبنا ذلك بالتفصيل في مقدمتنا للأصول العربية في تاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا، وكذلك الإشارة إلى الجرنال والعدد فإنها موجودة في قسم كبير من أوراق الحكومة المصرية التي صدرت في سنة 1256ه.
وهنالك طائفة من الأدلة يتذرع بها المؤرخ أحيانا بإمكاننا أن نقول فيها: إنها ظاهرية وباطنية في آن واحد. فمن هو محمد شريف باشا الذي صدرت عنه هذه الوثيقة؟ ومن هو أحمد أغا دزدار الذي وجهت إليه؟ وهل كان الأول حاكما عاما يصدر مثل هذه الأوامر، والثاني متسلما على القدس يتلقى أوامره من الأول؟ وهل قاما بأعباء وظيفتيهما في شهر ربيع الأول من شهور سنة 1256ه؟ وغير ذلك من الأدلة من نوع ما تقدم. فهي باطنية لأنها تتعلق بمضمون الوثيقة، وظاهرية؛ لأنها ليست مما تنطق به الوثيقة، وإنما تستخرج من مصادر أخرى مستقلة كل الاستقلال عن الوثيقة التي نحن بصددها.
صفحة غير معروفة