72

مصطفى النحاس

تصانيف

ووقعت مأساة دنشواي، وهي قرية صغيرة ذهب إليها بعض الضباط الإنكليز لصيد الحمائم، فنشبت بينهم وبين أهلها مشاجرة صغيرة على صيده، انتهت إلى فاجعة رهيبة بسوء ما صنع الإنكليز؛ فقد ارتكب كرومر فيها أشنع خطأ يرتكبه سياسي في العالم، وتصرف بسبيلها تصرفا مشينا منكرا يلطخ قومه بالعار، إذ أقام محكمة مخصوصة في القرية للانتقام من الذين اتهموا بالاعتداء على أحد الضباط البريطانيين، وراح يرسل المشانق لتنصب في ساحة القرية على مشهد أهلها وأعين نسائها وبنيها قبل أن تبتدئ المحاكمات، وانثنى ينفذ الأحكام غداة صدورها أمام أقارب المحكوم عليهم وأهليهم المروعين البكاة الضعفاء، وصحب الشنق في ناحية، الجلد في ناحية، ووضعت في أطراف السياط قطع من الرصاص؛ فكان المنظر وحشيا ترعش من هوله الأبدان.

وقد وثب مصطفى كامل عقب المجزرة صائحا صيحة داوية، هازا ضمير الإنسانية، كاشفا الأستار عن هذه المأساة النكراء، مثيرا عاطفة العالم اشمئزازا واستحياء؛ فكانت نتيجة صرخته البالغة أفول نجم كرومر وانطفاء كوكبه، وختام حياته السياسية وتحطيم مجده؛ إذ عاد إلى بلاده، وعفي عن الأبرياء الذين ألقى بهم في غيابة السجون، وراحت دماء الشهداء مطلولة غالية الفداء.

لقد كان موقف مصطفى كامل من تلك المأساة وقفة وطني شجاع ثابت ناضح عن بلاده بكل قواه، ولو لم يكن في تاريخه السياسي غير هذه الحسنة لكانت كافية وحدها لإحاطة سيرته بهالة من شعاع المجد ولمع الفخار وضياء الخلود.

وكانت صحة مصطفى كامل في ذلك الحين قد ذوت، وزيت مصباحه كاد أن ينفد، فاخترمه الموت عقب ذلك الانتصار بشهر أو نحوه؛ أي في العاشر من شهر فبراير سنة 1908، فريعت مصر لمنعاه، وسرى الأسى البالغ في صدرها لرحيله، فشيعت جثمانه الذاوي الذابل في أفخم مواكب الموت، وأروع سفرات الأرواح إلى السماء.

كذلك مات مصطفى كامل قبل أن يتجاوز الرابعة والثلاثين، فكان موته رائعا جليلا؛ لأنه حفز الحركة الوطنية وبعثها أقوى مما كانت من قبل، وجدد يقظتها فانتبهت من عنف الصدمة انتباهة مستطيلة في حياة الجهاد ومسيرة القضية المصرية إلى نهايتها المؤملة وغايتها المرتجاة. •••

وكان مصطفى كامل قد وجد أنصارا له في البلاد وأشياعا يناصرونه، منهم الشجاع الجريء الذي يتكشف بمناصرته، ومنهم المتهيب الذي يشايعه مخافتا ويخشى الظهور في زمرته. وكان بين الأنصار الشجعان الكبار النفوس المخلصين حقا لوطنهم، الباذلين في سبيل قضيته عن ندى وسخاء، رجل متعلم مهذب عريق المحتد، حسن الموارد، قويم الخلق، طاهر النفس، محترم الشخصية، لم يتردد في مساعدة مصطفى كامل بكل جوارحه، ولم ينزو عن تغذية الحركة بماله وجهوده، متفانيا في الفكرة الوطنية بكل ذاته؛ ولو رام الراحة وابتغى الوظيفة وأراد السلامة من المخاطر، لكان له في كبار المناصب وفير نصيب.

كان ذلك النصير الكريم هو محمد فريد بك، فقد انضم إلى مصطفى كامل من بداية الحركة ومستهلها، ثم ما لبث أن أوغل فيها وحمل حصته الكبرى من تكاليفها، واضطلع بواجبه الوطني في بهرة ساحتها، واشترك مع صديقه الشاب في جهوده لبث الدعوة لها وتنظيم صفوفها ، والقيام بالرحلات في الممالك الغربية وطوافها، منفقا على القضية الوطنية عن سعة، سخيا لها كأنها صفوة حياته وجوهر وجوده.

محمد فريد بك.

وكان مصطفى كامل قد بدأ يفكر في تأسيس حزب يدعوه «الحزب الوطني»، وكان أول خاطر له عام 1906، وكان يومئذ متصلا بالخديو سرا، فاتفق معه على تنفيذ الفكرة، ولكن لم يتوات له ذلك في تلك السنة، إذ سافر إلى أوروبا لبث دعوته لقضية بلاده.

وعاد في سنة 1907 مريضا ضاويا يبدو أثر السقام على محياه، ولكن فكرة تأسيس الحزب كانت قد اختمرت في خاطره؛ فنشط لتحقيقها، ودعا الأنصار إليها، وألقى بالإسكندرية في أكتوبر من تلك السنة خطابا جامعا أعلن فيه مبادئ الحزب الذي ينادي بتأسيسه، ثم اشتدت وطأة المرض عليه، وألحت ذات الصدر على بدنه، فبادر إلى تنفيذ الفكرة في ديسمبر من العام ذاته، ولم يفارق بعد ذلك سريره حتى تخطفه الموت أوجع متخطف قبل أن يشرف على حزبه الوليد.

صفحة غير معروفة