53

مصطفى النحاس

تصانيف

وقد بينا لك في صدر هذا البحث أن حشد أسماء النساء اللاتي نجحن في العالم كزعيمات غير ميسور؛ لأنه يروح مستطيلا خارجا بالكتاب عن حدوده، وهنا نقول إنه ما من شك في أن عددهن مقدور له بالطبع أن يزيد ويترامى كلما تعددت الظروف المهيئة التي تعين النساء على أن يتساوين، أو يفقن الرجال في الزعامة والصدارة والسلطان، وهذه الظروف والعوامل - بلا ريب - ستزداد مع تطور الحياة الحديثة وعلى مر السنين.

حضرة صاحبة العصمة السيدة الجليلة أم المصريين.

ولا خفاء في أن ما قدمناه في فصول الكتاب بسبيل الزعامة وأسرارها وصفاتها وشروطها، ينطبق على النساء كذلك في موضع الزعامة، وإنما يختلف الفريقان، المرأة والرجل في هذا الموضع، من حيث الأخطار التي يتعرض لها كل منهما، فإن مساوي الزعامة وأخطارها بالنسبة للمرأة أكثر عددا، وأدق صفة، وأعمق غورا، وأفعل نتائج ومعقبات.

ومما يلاحظ غالبا في زعامة النساء أن الزعيمة تجد من النساء أنفسهن انتقادا أكثر مما يوجه إليها من قبل الرجال، فهي من ثم مطالبة بأن تؤدي عملا أخطر وأفضل مما يؤديه الرجل لو أنه في نفس الموضع، بل هي مقتضى منها أن يكون تفوقها غير منازع فيه، وسمو نفسها فوق كل شك أو مظنة، وإخلاصها لا يرقى إليه أقل اتهام أو أدنى ارتياب، ولعل سر الانتقاد القاسي المرير الذي ينبعث من جهة النساء نحو المرأة الزعيمة هو أن النساء قد ألفن من قديم الزمان أن يشهدن الرجال مديرين، ويرين الرياسة لهم، والزعامة أبدا فيهم؛ ومن ثم إذا وقع ذلك لإحداهن، قام في أخلادهن النزوع إلى الموازنة على ضوء زعامة الرجال في بحث زعامة المرأة، فرحن يقتضين منها الخلو المطلق من العيوب في غير تسامح ولا تساهل، ومضين يتعقبن الهنات واللمم وأتفه العيوب.

ومما يعاب على زعامة المرأة أن النساء في هذا الموضع يجنحن إلى الاشتطاط في الرقابة على الذين من دونهن، والغلو في التدقيق، والمبالغة في الملاحظة، إلى حد التجسس والتفقد المتسلل في الخفاء، وهو - بلا ريب - عيب عام فيهن، وأكبر مظهر له وأغلب عارض من أعراضه ما يشاهد في البيوت من السيدات ومسلكهن مع الخدم، ولعل ذلك الجنوح هو الذي يفسد على الأتباع عملهم ويعطل ملكاتهم، لما فيه من الاحتجاز والتضييق على الحرية، ومنع التابع من استخدام مواهبه في مدى فسيح ومضطرب واسع النطاق.

السيدة كوربيت آشي: زعيمة الحركة النسوية في إنجلترا، ورئيسة الاتحاد النسوي الدولي.

ويؤخذ على زعامة المرأة أيضا أنها تنزع إلى الشك في مقدرة النساء من أشياعها، والعاملين تحت إمرتها، ذاهبة إلى أنها تعرف بنات جنسها حق المعرفة، وليس من ريب في أن هذا النزوع لا يتفق والزعامة المتوخية لنفسها النجاح، باجتذاب النفوس إليها واستمالة القلوب والأرواح؛ فإن الثقة بالغير تقتضي غير هذا النزوع المتشكك، وتستوجب الشعور بأن الولاء يمكن اكتسابه، والإخلاص الصحيح ميسور لمن يطلبه، بأمثل وسائله وأصلح أساليبه، ولا خفاء في أن الميل إلى الانتقاص من أقدار الناس بسبب علل وبواعث ودوافع ملازمة حتما لطباعهم وغرائزهم وبشريتهم هو نقص في الزعامة، وعيب ينبغي للزعامة العاقلة الحكيمة أن تحاول جهدها اجتنابه؛ لأن الحكمة في رياضة الطبائع لا في مقاومتها، وفي استمالة الطبيعة البشرية بإدراك حقائقها، والنظر إليها من نواحي محاسنها ومساويها بالسواء لا في تجاهل المساوئ ومطالبة الطبيعة بما ليس في الإمكان.

ومن المقرر أن في النساء مزايا هي عادة أبين وأظهر منها في الرجال، كما أن في هؤلاء مزايا لا تظهر على كثرة في النساء، وإن اجتماع العزم المتحمس النشيط الصادق الانبعاث إلى الغاية المنشودة بالحرارة والشعور نحو الجماعة والرغبة في التضافر معها لإقامة وحدة مجهود واتجاه، هو عنوان الزعامة الصالحة الرشيدة، واجتماع هذه الصفات قد يتوافر في المرأة كما يتوافر في الرجل، وإن اختلفت النسبة وتباين المقدار.

ومن هنا كان نزوع النساء اللاتي يتولين الرياسات والزعامات في محيطهن نحو تقليد الرجال واحتذائهم والتشبه بهم في السياسة والمسلك والطريقة والأسلوب والمنهاج، مفسدا لطباعهن، متلفا لخواصهن، محدثا أسوأ النتائج.

وإنما كل المطلوب من المرأة هو المحافظة على جوهر نسويتها، حتى تكون المرأة الزعيمة هي أبلغ النساء أنوثة، وأصدقهن حرصا على جنسها وطبيعتها؛ فلا تقلد نماذج لا تتفق وذوقها وميولها الطبيعية، بل ينبغي لها أن تتابع دوافعها، وإملاء شعورها، حتى تكتسب إخلاص جمهورها أو أشياعها وأنصارها بالعاطفة والحماسة والمودة وحاسة الولاء.

صفحة غير معروفة