ولكن الوطنية إذ تفرغ من كل هذه المعاني وتستتمها، وتنعم بالاستقلال ومزاياه، ويتزاحم على صدرها المجد وأحلامه، والطمع وتكاليفه، والتوسع ومطالبه؛ قد يحتمل أن تستحيل إلى حاسة باغية عادية، موحشة ضارية، وتصبح وطنية الأقوياء الذين يذهبون يجربون قواهم في غير أوطانهم ولا يقنعون باستكمال حريتهم، فيخرجون للعدوان على حرية غيرهم؛ فتنقلب الوطنية بهم جشعة متمادية، كلما زادوها استزادت، وكلما أكلت طلبت من الطعام زحاما من الألوان.
الوطنية المدافعة عادلة، والوطنية المهاجمة ظالمة، أو نصفها في جانب العدل، ونصفها في جانب الظلم.
والوطنية الأولى فاضلة، والوطنية الأخرى تمادت مع الفضل حتى رذلت، وتناهت مع غرور القوة حتى لتنتهي في الأعم الأغلب إلى التدهور والفناء.
إن وطنية الهجوم باطلة، وهي لذلك لا تعمر.
وإن وطنية الدفاع حق، وهي لذلك باقية ليس لها على الدهر من زوال ولا انتهاء.
ولكن لكل منهما قادة وزعماء؛ وإنما الفارق بين الزعامتين في الناحيتين هو المسافة بين الخير والشر، والفاصل بين الفضيلة والرذيلة، وقد كان نابليون زعيما، كما كان واشنطن محرر أمريكا زعيما؛ والفرق بين زعامتيهما هو في تاريخهما، وإن كانا فيه خالدين، فقد ترك واشنطن صفحات بيضاء نواصع زاهيات، وما ترك نابليون غير كتاب سطوره من دم قان نجيع ولا يزال هذا باديا في جيلنا؛ فإن موسوليني زعيم، وهيلاسلاسي كذلك زعيم، والفارق بين الزعامتين مثل الصبح ظاهر ...
واشنطن - محرر أميركا.
وكم من أفكار طيبة، وآراء سديدة صائبة، ونظريات جميلة زاهية خلابة، وآمال تتزاحم على نفوس الجماعات، وأماني عذاب تتراقص أمام الأذهان، وتبدو فاتنة ساحرة البيان، ثم لا يزال الناس يتمثلونها في سكرات الخيال، وينظرون إليها نظراتهم إلى المحال، ويحسبون تحقيقها ضربا من ضروب الأحلام، فإذا ما ظهر الفرد القوي الشخصية، الباده الخليقة، المستحصد العزم، العميق الإيمان بصواب ذلك ونحوه، وحكمة أولئك وما يتصل بها؛ توثبت النفوس، واستحمت المشاعر، وتوقدت العزمات، وبدأ المسير إليها، وآذن الرحيل وراح الناس ينطلقون نحوها، ويتبعون هذا الحادي القوي الحداء، الجهير الصوت، المفتول الساق، الجلد على طول المسير، وهم مؤمنون مقدما بأنهم بالغو الغاية السامية آخر الجهاد من أجلها والنضال.
ولقد أصبحنا نعيش في عصر الزعامات، فإن الجيل الحاضر قد أضحى يحيا، ويتحرك، ويعتمد في حياته، على المجهود المشترك، ويجد نفسه وسط مجاميع متعاونة؛ وهيئات متآزرة، حتى ما من ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية إلا كان مجهود المجموع هو مظهرها الغالب، وطابعها الظاهر، وصفتها العامة! بل لقد تعدت هذه الظاهرة إلى الناحية الفرحة اللاهية من الحياة، فغمرت الأندية والمجامع الرياضية وفرق الألعاب وجماعات اللاعبين.
الزعيم هو إذن القوة المشرفة على الجماعة؛ لكي تتعاون وتتناصر وتتضافر في سبيل تحقيق غاية معينة، وتنفيذ غرض مشترك، بل هي تلك القوة النفسية المؤثرة في المحيط، النافذة بسلطانها في الأفق والبيئة، الجامعة في يدها لكل قواها وموارد نشاطها ومستودعات مواهبها، الدافعة بها نحو غرض واحد ومطلب عام، العاملة على أن يؤمن كل فرد بأن مصلحة الجماعة ينبغي أن تتقدم مصلحته، وأن المثل الأعلى يقتضي اختفاء الأثرة، ورياضة النفس على الغيرية والإيثار والاستعداد للبذل والتضحية والفداء.
صفحة غير معروفة