كانت عمتي تحمل عصاها الغليظة، وهي ترتدي قربابا جميلا، وهي تمشي خلف عربة الكارو، وكنت أنا أركب قرب السائق، أما الحقائب الكبيرة فإنها مغطاة بمشمع من الكنفاز كانت عمتي تحتفظ به منذ سنوات كثيرة ربما لمثل هذا اليوم، ولا أعرف كيف عرف أطفال الحي الجنوبي بالكنز؛ لأنهم الآن يجرون على بعد مسافة كافية من عصا عمتي وهم يسألونها أن ترمي لهم بعض النقود، أما الكبار وعلى الرغم من علمهم بما نحمل في الكارو إلا أنه لا يجرؤ أحدهم على الاقتراب من عمتي، كل ما يمكنهم فعله هو إلقاء التحية من بعيد، بالتأكيد كان شكلها غريبا وهي ترتدي القرباب وحول خصرها الخنجر تخفيه تحت الفوطة التي تستخدمها كبلوزة وتوب في آن واحد، وهي ليست كبيرة في العمر بالصورة التي تجعل الناس يصنفونها كبقايا قرون سابقة، كانت جميلة وطويلة، ولكنها اختارت أن تلبس مثل جدتي حريرة وأن تعيش في زمانها كراعية للماشية، كان الناس يقتربون منا أكثر كلما قربنا للسوق الكبير، وعندما وصلنا البنك كنا وسط غابة من الفضوليين الذين تجمعوا ليروا المرأة الراعية صاحبة الملايين، بدأ رجال البنك بالحساب، وهم في غاية التذمر لكثرة ما سوف يحسبون ودقة عمتي التي كانت تعطيهم ربطة واحدة وتنتظر إلى أن يحصوها عددا ثم يقوموا باستبدالها، تضعها في الحقيبة الفارغة التي أتت بها، ثم ربطة أخرى وأخرى وأخرى إلى أن أتوا على الحقائب الأربع كلها، تأكدوا من صحة حسابهم عن طريق الحاسب الآلي، حينها قالت لهم عمتي وهي تغلق حقائب المال جيدا وتتأكد من أنها قد أغلقت جيدا بسحبها بشدة: حأمشي للبيت عشان أجيب الفكة.
صاح موظفان في آن واحد: الفكة! - أيوا عندي برميل واحد بس. - برميل!
خالي جبرين، أبي، أمهاتي الأربع، أخواي الكبيران محمد والشفيع، خضر ولد النعيم صاحب الكارو، عمتي ذاتها، كنا جميعا نصارع البرميل الثقيل المقفول بصورة تامة محاولين أن نخرجه من القطية لكي نرفعه على سطح الكارو، البرميل الثقيل ثقيل، أخيرا اتبعنا فكرة أبي بأن نفرغه في جوالات من الخيش ليسهل نقله إلى البنك، ولكن فاجأتنا عمتي بما لم يتوقع أحد منها، حينما قالت: شيلوا المال الفي البرميل دا كله كرامة، اتقاسموه ناس البيت كلكم.
فسرت هذه الخطوة من قبل الكثيرين بأن عمتي قد تعبت من معالجة البرميل وعملية الحساب والعد وهي الآن تتخلص من كل ذلك: هذا مشكوك فيه؛ لأن عمتي لا تغضب لا تتضجر لا تمل لا تشتكي من المال.
وفسرت أيضا أن ذلك حدث بإيعاز من الجان الذي يتزوجها: هذا جائز، فللجان أحوال كأحوال البشر.
وفسرت أيضا أن عمتي ستموت قريبا جدا: هذا خيال جامح؛ لأن عمتي ليست من ذلك النوع الذي يعطي انطباعا للآخرين بأنه سيموت قريبا، الذين تحس بهم جنازة تمشي على الأرض، بل العكس: من قال إن عمتي ستموت؟ عمتي خلقت لتحيى للأبد، أو هكذا تبدو لكل من يراها.
أما السناريو الذي لم يضعه أحد في الحسبان هو الذي حدث، كنت وعمتي نجلس في القطية، كان البرميل الفارغ يقبع في مكانه خلف العنقريب الضخم، بدت عمتي سعيدة وحزينة في نفس الوقت، كنا نأكل البلح بالزيت، وبين حين وآخر كنت أنتبه إلى أن عمتي تهيم بأفكارها بعيدا، ظننت في بادئ الأمر أنها مريضة، ولكنها أكدت لي أن صحتها على أتم ما تكون وأنها فقط تسمع أصواتا، سألتني: بتسمعي الأصوات دي؟
كانت الأصوات تأتي من بعيد جدا كصليل الأجراس، ثم أخذت تعلو وتعلو. - دا شنو؟
أكدت لي أنها مثلي لا تدري عن أمر الأصوات شيئا، وأثناء ما نحن نتداول الأمر إذا بالنقود تتساقط في البرميل كالمطر، كانت عملة معدنية لها بريق، ظلت عمتي تنظر في صمت وهي تمسك بيدي لكي لا أخاف أو أهرب، ولم تجب على سؤالي المتكرر لها: دا شنو يا عمتي، دا شنو؟
إلى أن امتلأ البرميل تماما، واختفى الصوت، حينها قالت لي عمتي: القروش رجعت!
صفحة غير معروفة