أما وقد أشرنا بما يقتضيه المقام من الإيجاز إلى منزلتي «عبده» و«عثمان» فيجمل بنا تعميما لفائدة هذا المقال أن نتكلم على فن الغناء العربي كما هو الآن، ونبحث فيما إذا كان ينبغي أن يبقى كما استخلفنا عليه هذان الفقيدان، أو أن يعدل ويكيف بحيث يصبح أتم تأثيرا في النفوس وأصلح لأن يشربها ما هي في حاجة إليه من الخلال الشريفة والفضائل.
فالموسيقى فيما اشتهر من تعريفها إنما هي تأليف أصوات تحدث طربا في قلوب السامعين. والطرب قد يكون سرورا وقد يكون شجوا، ومعناه في الحقيقة الانفعال الذي تولده الأنغام في النفس أيا كان.
ومن أوصاف الموسيقى أنها في بناء الأصوات كفن العمارة في تشييد الأبنية وتأليف أجزائها والمناسبة بين رسومها ونقوشها وتقاطيعها وتحليلاتها، يسميه الإفرنج بموسيقى البناء على أن أساسها التناسب كما هو أساس كل فن نفيس، وهذا التناسب في الموسيقى يعرف اصطلاحا بالإيقاع، والإيقاع قديم قدم الموسيقى غير أن المغنين من العرب حصروه في نغمة نغمة مما يغنون. فكان في حقيقته مفضيا إلى الملل بخلاف الإفرنج فإنهم استخدموه وسيلة للتنقل من نغمة إلى نغمة، ولإعطاء كل نغمة جميع الرنات التي يتم بها طربها الناجم عنها بذاتها، أو باجتماعها مع سائر الأنغام التي يتألف منها الصوت.
ولا غرو أن يكون مغنونا على مثل هذا الجهل الذي أبقى الموسيقى العربية على حالها الفطرية، فإن شعراءنا - إلا بعضهم - وكتابنا - عدا القليل منهم - لا يزالون إلى الآن أرقاء الجناس، وعبيد مراعاة النظير، وخدمة السجع، وذباحي المعاني الجليلة، وناسخي الحقائق، وماسخي الصور الجميلة في الطبيعة، وجاحدي وجدانات النفس وانفعالات الحس ليقتدوا بأمة هم تركوا عاداتها وأخلاقها، وهجروا خيامها وصحاريها وأنكروا ملبسها ومأكلها ومشربها، ولم يحتفظوا بشيء من خلالها ومزاياها. ولم يستبقوا منها إلا النسبة إليها. فلا هم يحسنون تقليد أدبائها ولا هم ينتزعون من لغتها، لهم لغة خاصة فصيحة ذات أساليب ومصطلحات وألفاظ تمكنهم من التعبير عما يخالج ضمائرهم ويخامر نفوسهم بما ينطبق على الواقع ويكون صدى حقيقيا لما يشعرون به.
كتب إعرابي في صدر منظومة له «قفا نبك» فلم يستهل واحد منهم منظومة بعد ذلك إلا وهو واقف باك. ونظم آخر أبياتا كثيرة بروي واحد سميت قصيدة، فتبعه في ذلك في كل ناطق بالضاد من صحراء الجاهلية الأولى العريقة في الهمجية إلى ساحة المعرض العام بباريس في أجمع زمان لأسباب الحضارة، وكل كتب القصيدة على ذلك النمط. وذكر أحد ظرفائهم أن الأرجوزة حمار الشعر فلم يروا عقب ذلك أرجوزة إلا ولها أربع قوائم تمشي عليها. وهكذا هم يتقيدون بسلاسل التقليد. وكتاب اللغة الأجنبية يذهبون كل مذهب في اختراع التراكيب وابتداع الأساليب التي يظهر معها كل خفي ويتجسم كل روحاني، وتتمثل كل صورة، ويصور كل شعور، فهم أبناء عصرهم ونحن أبناء العصور الخالية. وهم يحيون بما ينظرونه ويحسونه. ونحن نحيا بما ننقله حتى في التصور والحس.
ومعلوم أن الموسيقى شقيقة للأدب مطبوعة على غراره فكيف كان الأدب تكون الموسيقى. وهي الآن منحطة في الشرق لأنه منحط، وانحطاطهما على قدر. فكلاهما يجب نقده وتنقيحه وإخراجه إلى ما تقضي به الحاجة الماسة. وإلا فأي مصلح للأمة يكون أقوى في البيان؟ وأي بيان يكون أشد وقعا في النفس من الذي توصله إليها النغمة وتمزجه بها مزجا؟
على أن الإصلاح الذي نبتغيه ميسور، إذ يكفينا أن نبدأ بتطبيق الموسيقى العربية على الموسيقى التركية تطبيقا تدريجيا إلى أن يألفها الذوق، وتوضع لها قواعد، وترسم علامات، ويغني الدور الواحد بنغمة واحدة وألفاظ واحدة في المنتديات وفي البيوت وفي الأسواق. فإذا وصلنا إلى هذه الدرجة انسقنا بحكم السير الطبيعي إلى ما هو أعلى فأعلى . وهكذا فعل الأتراك، إذ أخذوا عن الأروام الذين غناؤهم أقرب إلى الغناء الشرقي. فأصبحوا الآن ينشدون في ملاعبهم أجل الروايات الموسيقية الأجنبية بألفاظ تركية، وقد لا يمضي زمن حتى ينشئ بعضهم رواية موسيقية متقنة فيبلغون بها الغاية.
وكان المرحوم «عبده» قد شرع في نقل شيء عن الموسيقى التركية. ومنها أخذ الآهات الطويلة التي يصاعده فيها جمهور المغنين، وهي أحسن ما في غنائنا الآن. غير أنه لم يتسن له معين على إحداث الرموز التي هي أساس علم الموسيقى والتي بغيرها لا تكون الأنغام إلا فوضى. وأذكر أني شكوت إليه يوما هذا القصور وقلت له:إن الرموز الموسيقية موضوعة منذ نيف وخمسة آلاف سنة. وأنها أول ما رسمت في الهند وفي الصين. فمن المخجل أن تكون مصر سيدة الموسيقى في الشرق الآن ولا يستطاع إثبات لحن من ألحانها على صحيفة يعلم منها أخواننا القاصون أو أبناؤنا الآتون أي فن كان فننا في التلحين، وما كان «عبده» وكيف كان أسلوبه؟ وهل كان جديرا بالمحل الذي أحل فيه من إكرام الناس؟ فأجابني: أنه كان يود ذلك وأنه سعى ما سعى للوصول إليه فلم يفز بطائل، وأنه لم يجد واحدا في القطر يستطيع أن يعرفه معنى لحن من الألحان الأجنبية تركية كانت أو غير تركية. وأن كل ما حصله من مغنى الأتراك وأدخله في المغنى العربي كان سماعيا اجتهاديا رائده فيه موافقة الذوق المألوف، ومراعاة الإصلاح المعروف.
لا جرم أن عملا كهذا ليس مما يقوم به فرد أوعى صدره ما أوعى من المعارف الموسيقية المختلفة، وبلغت ثروته ما بلغت من السعة، وإنما هو عمل شركة أو جمعية تستقدم أساتذة من الأستانة لتخريج جمهور من ذوي الفطرة الموسيقية والأصوات الحسنة على مبادئ هذا الفن. وتعليمهم حقيقة مقصده وشرف غرضه، وتدريبهم على التأليف فيه كل بما يوحي إليه علمه وعقله وترشده إليه ملكته كما يفعل ذلك الذين يدربون على الإنشاء، ونتائج مثل هذا التدريس أبين من أن أطيل الكلام عليها فحسبي الإشارة.
أما إذا بقيت الموسيقى على ما هي عليه الآن فإنها بلا ريب تلذنا، ولكنها تمثلنا أبدا بأخلاق الرعاة الفوضى وإن كنا في أزياء المدنيين الحضريين؛ لأن هذه الأصوات الأنفية، وهذه الأنات المرضية، وهذه النفثات الصدرية لا تصدر عن بأس وحزم ولا تدل على شرف وعلم. (3)
صفحة غير معروفة