وكثيرا ما كان محمد عثمان ينهاه عن الاستسلام إلى الحزن ويقطع عليه وجهة الابتكار والتصنيف لمثل هذه الأغاني المحزنة؛ محافظة على البقية الباقية من صحته.
أمراضه وآلامه
أما عن أمراضه وآلامه فحدث عنها ولا حرج، وإليكم ما ذكره إبراهيم بك المويلحي بجريدة: (مصباح الشرق) بحروفه «فلم يفارقه داء الصداع طول حياته، وكانت إذا اعترته نوبته ألقته على الأرض صريعا يتخبط في أشد الآلام لا يكاد من يراه على تلك الحال يصدق بنجاته منها، فإذا أفاق لزم الفراش من عظم وقعها مدة طويلة ولم ينجع في ذلك الداء معالجة الأطباء، وكان رحمه الله جلدا صبورا على تحمل الآلام في نفسه وبدنه، فقد أصابه غير هذا الداء من الأمراض علل كثيرة بعضها في إثر بعض، حتى كان يقول أنه قضى ثلثي أيام حياته في المرض، والثلث في مراعاة خواطر الناس. وقد أصيب بخراج في الكبد استعصى على الأطباء أمره ويئسوا فيه من نجاته حتى امتنعوا عن العملية الجراحية وقرروا أن النجاح فيها كنسبة الواحد إلى المائة، فألح عليهم المرحوم بوجوب عملها على أية حال، فعملوا له عملية البزل، فلم يخرج من الأنبوبة شيء؛ فتركوها في جوفه بمبزلها، وأمروه أن يستمر راقدا على ظهره لا يتقلب على أحد جنبيه طول ليله، وأنذروه إن هو تحرك وانفلتت الأنبوبة من مكانها قضي عليه، ثم وكلوا به من يحرسه واستمر في حالته التي تركوه عليها إلى أن غشيه النعاس في آخر الليل، وغفل الحارس عنه برهة فانقلب على جنبه، فأصاب سن المبزل رأس الخراج من طريق الاتفاق، فلم يشعر الحارس إلا وقد سال الصديد حول الفراش، وأيقن بالخطر وأسرع إلى الطبيب، فلما حضر وفحص حالته قال: «إن يد القدرة قامت بما عجزت عنه يد الأطباء».
وما كاد يشفى من هذه العملية حتى ظهر في الكبد خراج آخر، فعملت له عملية ثانية بالإسكندرية. ثم أصيب بعد ذلك في سنة 1888م بالتهاب في الرئة، فكان ينفث الدم وتأكل جزء من إحدى الرئتين، ومن هنا ابتدأ الداء الذي مات به، فعالجه الأطباء وأشاروا عليه بسكنى حلوان فسكنها ووقف سير الداء فيه، وسافر المرحوم في سنة 1896 إلى الأستانة العلية، وحظي هناك بالمثول في الحضرة الشاهانية مرارا، فأعجب أمير المؤمنين بمهارته في فنه وحسن أدائه فأسنى عطيته وبلغه حسن رضائه ا.ه.
ترفعه عن وظيفة مغن
وقال أيضا ما أنقله بنصه حرفيا: «كان المرحوم الحمولي كبير النفس علل الهمة يحاول الارتفاع عن وظيفته، وسعى في الخروج منها مقتصرا على الاشتغال بالفن لذاته لجهل الناس في جيلهم الماضي بعلو قدر هذا الفن، وغفلتهم عن جلال منزلته بين الفنون، وناهيك به أن أفلاطون وهو حكيم الحكماء جعله في مقدمة علوم الحكمة، وأول مراتب التهذيب، وقد عمد المرحوم إلى ذلك بالفعل في أيام المغفور له إسماعيل باشا فترك مزاولة صناعته بالأجرة بين الناس وخرج من زمرة المغنين إلى زمرة التجار غير طامع في الذهب الذي كان يسيل من حياله بممارسة صناعته في تلك الأوقات. فافتتح محلا لتجارة الأقمشة اشترك فيه مع بعض التجار بمبلغ عشرين ألف جنيه، فما مضى عليها عشرون شهرا إلا وانتهت به سلامة نيته وحسن ثقته أن خرج منها صفر اليدين مدينا للشريك، دائنا للناس يمنعه الخجل ويحجبه الحياء عن طلب الوفاء، ولم يمتنع في أثناء ذلك عن الغناء بين الناس، بل امتنع عن طلب الأجر عليه، إلى أن عادت به حاجة العيش إلى مزاولة صناعته كما كان في أول أمره. ولم يزل يتطلع إلى غرضه في الانقطاع عنها كما فعل، ودهره يحول دونه فلا يستطيع بلوغه إلى آخر مدته».
فيستدل من كل ذلك أنه أرفع من أن تحوم نفسه على استغلال مواطنيه والاتجار بالفن، وأن فراره من المهنة هو محمول على شرف نفسه وإبائه، كما أن استمراره في الغناء بلا أجر في أثناء اشتغاله بالتجارة دليل على زهده في المال وانصرافه عنه مما يخالف على خط مستقيم حال المطربين المجددين في زماننا المادي في القرن العشرين. وحال قريش فكان عمر يرقع ثوبه بالجلد، وكان علي (رضى الله عنه) يقول للمسكوك من العملة: «يا صفراء يا بيضاء غزي غيري».
الموسيقار العربي يلبي دعوة المنيلاوي
دعا الشيخ يوسف المنيلاوي المرحوم عبده الحمولي وحضرة مخائيل بك تادرس وآخرين لتناول الغداء بمنزله بكوبري القبة بعد أن اشترط الثاني على الأول ألا يأكل عنده إلا أكلة مصرية بحت كالملوخية «المطراوي» المطبوخة بمرق الأرانب «البلدي» الشمرت، فجهز الشيخ يوسف ذلك على الطراز المراد، وأخذ المدعوون يغدون إلى داره وحضر عبده بملابسه العربية المكونة من جلباب جوخ وعباءة وكوفية «محلاوي» وبيده عصا أبنوس شغل أسيوط، فلما استقر به المقام وتفقد أخوانه المدعوين لم يجد بينهم صديقه الحميم مخائيل بك تادرس، وما لبث أن أمسك بالعود ليغني حتى قدم الأخير مهرولا وقال له إنه حضر قبل انصراف الديوان بساعتين إكراما لخاطره بعد أن استأذن من أحمد فريد باشا رئيس الدائرة السنية آنئذ بالانصراف بحجة أن أمرا مهما طرأ عليه، وأخذ يغني ويبدع حتى الساعة الخامسة بعد الظهر، واستغنى الحضور عن الغداء بما غذى نفوسهم من غناء. وليس هنا محل الغرابة ولكن المستغرب أن الشيخ: يوسف على ما هو معدود من أكابر المنشدين وأشهر المطربين فإنه تأثر من حسن إلقائه حتى صاح قائلا «سبحان الوهاب سبحان الوهاب» والدموع تتساقط على خديه على حد ما حدث للأستاذ: الأسواني العواد الفذ فإنه بعد ما سمع عبده يغني دور (يا أهل العجب شوف حبك كواني تعالى شوف) دهش وتعجب من حسن إلقائه وغريب تصرفه الفني، ومال نحو الأستاذ: أحمد نسيم الشاعر الموظف بدار الكتب وقال له ليس العجب أن يعجب الحاضرون بغنائه الفريد المدهش وهم لا يعرفون للفن قبلة ولا دبرة، بل الأعجب هو أن أكون أكثر دهشة منهم على ما أنا عليه من تضلع من الموسيقى وأصبح أحير من ضب لا أتمكن من الاهتداء لمعرفة كيف علا صوته وانخفض في لفظة «العجب»، وتجمع وتفرق وتداخل وتخارج وتأصل وتفرع وأوغل وتخلص وتوغر وتسهل وأغار وتسلسل، وأردف قائلا إنه لو خير بين مدينة لندن ولفظة العجب لفضل الأخيرة على الأولى وما عليها، وكانت له بحة حلق طبيعية وعربية وإليكم ما قاله كشاجم في بحة حلق المغني:
أشتهي في الغناء بحة حلق
صفحة غير معروفة