حديقة الأزبكية
ومما لا يختلف فيه اثنان، أن الأزبكية كانت مستنقعا ينبت فيه النبات المائي الكثيف، وينقف بيض البعوض الناقل للعدوى، فأزيلت بناء على أمره السامي تلك المياه الراكدة، بمعرفة (برهان بك): مدير الإدارة بوزارة الأشغال العمومية سنة 1837، وغرست الأشجار على اختلاف أنواعها، صفوفا منظمة، واكتست أرضها بثوب سندسي قشيب، يشرح الصدر، ويقر العين. وأقيمت في وسطها الفسقيات التي تنفجر من فوهاتها المياه المتلألئة، وربي فيها أجمل أنواع السمك، وأنيرت مصابيح الغاز في أرجائها، وبنيت الجبلاية على أبدع طراز، وهي لا تزال ماثلة أمامنا للآن، وصفت الأكشاك الحديدية حولها من الداخل، حوت تخوتا للطرب، غنى فيها أشهر المغنيين والمغنيات، فصير مجهوده وابتكاره من المستنقع الآسن رياضا تجري من تحتها الأنهار، وأطيارا تغرد على أفنان خمائلها، ووجوه حسان تلوح في غدران مناهلها، وتحت ظلال نارجيلها، ويقدر مسطحها بنحو 170000 متر مربع. وكانت أرضها موقوفة لآل البكري، واستبدلت بأطيان بناحية بهتيم، تزيد على مساحتها أضعافا مضاعفة. وقد أصدر أمره الكريم بتشييد مسرح للكوميديا بناحية منها في 23 نوفمبر سنة 1867، واحتفل بافتتاحه في مساء 4 يناير سنة 1868 حيث بوشر التمثيل دون أن يمضي على إنشائه أكثر من اثنين وأربعين يوما.
الأوبرا
أما الأوبرا، فقد بنيت سنة 1869 في مدة لم تزد على خمسة شهور، وبلغت تكاليفها نحو 160 ألف جنيه، فأحضر إليها من أوربا فرقا للتمثيل من أعلى الطبقات. وكانت أول الروايات التي مثلت فيها بوجه التحقيق رواية «ريجولوتو» التي حضرها كل من الخديو إسماعيل، والدوق والدوقة داوست، وذلك في أول نوفمبر سنة 1869، كما جاء بالجريدة الرسمية بتاريخ 10 منه.
ولشدة ولعه بالمصرية كلف مارييت بك آنئذ بتأليف رواية «عائدة المصرية»، وأناط فردي الموسيقي الطلياني الشهير بتلحين أنغامها الشجية، فقام بتمثيلها أقدر الممثلين والممثلات في مساء 24 ديسمبر سنة 1872، وعزفت الأوركسترا الطليانية بنغماتها الشجية، عزفا أخذ بمجامع القلوب، وسر منه الخديو إسماعيل سرورا أدى به إلى منح فردي وجوقته 150000 فرنك ذهب. ثم أنشأ بعد ذلك المسرح الهزلي الفرنسي
La Comédie Française .
التمثيل العربي
أما ما كان من أمر التمثيل العربي، فكانت حجر زاوية بنائه، فرقتا التمثيل لسليم نقاش ويوسف خياط. ومن الروايات التي حضر الخديو إسماعيل تمثيلها، أذكر روايات «أبي الحسن المغفل»، و«هارون الرشيد»، و«أنيس الجليس» وبعض روايات أخرى لموليار الشاعر الهزلي الفرنسي مثل روايات: «البخيل»، و«الطبيب رغم أنفه»، و«الشيخ متلوف»، و«النساء العالمات» التي قام بتعريبها عثمان بك جلال، المعروفة بما يأتي: “L’Avare, le médecin malgré lui, Matluf, ef les femmes savantes”
ولما كانت الروايات التمثيلية من أنجع الوسائل، وأفعل العوامل في تهذيب الأخلاق وتنوير الأذهان، وحث النفوس على الفضائل والمحامد، بما تصوره للحاضرين من مناظر للفضيلة والرذيلة، والعدل والظلم، والوفاء والغدر، والصدق والكذب، إلى غير ذلك من الخصال، بارزة تحت ثوب من اللهو والفكاهة والجد، فضلا عما تنطوي عليه من حقائق ثابتة، ووقائع تاريخية، وحوادث وعبر لهذا الكون، تتكرر على مرور الأيام (ولا جديد تحت الشمس)، عمد المغفور له الخديو إسماعيل إلى تشجيع أبناء وادي النيل على غشيان دورا الأوبرا، ومسارح التمثيل الراقي، والملاهي البريئة، رغبة أن يريهن بعين النقد، ونور البصيرة، العبر في حياة من مضى من الأمم، إتباعا للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بدلا من سماعهم القصص الخرافية، وحماسة عنترة بن شداد ، وحروب الزناتي خليفة، والزير سالم، وسير أبي زيد الهلالي سلامه، وقصص ألف ليلة وليلة، وحضور الألعاب البهلوانية والأراجوز التي اتسع مجالها عند المصريين، وأصبحت مهنة لأرباب الجهالة والدهاء، يتفننون في متنوع أساليبها، جرا لمغنم من أهل السذاجة فيهم، وذلك في بدء توليه الأريكة الخديوية. وكان لشدة عطفه على تلاميذ المدارس العليا كالمهندسخانة مثلا أو غيرها، يبعث إليهم تذاكر خصوصية إسوة بأولاده الأمراء لكي يحضروا معهم التمثيل الروائي في الأوبرا.
وبالجملة فإن فن التمثيل كان معدوما فأوجده في مصر العزيزة، دون أن يتمتع بمزاياه سائر البلدان الشرقية لما أن العرب كانوا بوجه عام يقتصرون على عرض منتجات قرائحهم في سوق عكاظ، وكانوا يعلقون على جدار الكعبة الشريفة الشعر الأكثر طلاوة الذي صيغ من أخلص النضار. فمن أين يا ترى يمكن أن تستنير عقولهم بالحكم والمواعظ والعبر المستمدة من الوقائع التاريخية، والحوادث الواقعية، التي تمثلها تحت الحس الروايات التمثيلية إذا غابت عنهم معرفة فوائدهم ولم يستعملوها بين ظهرانيهم لأنهم يتخذونها هزؤا، ويصفونها بالمهنة السافلة، بدليل أن الأدوار التي يجب أن تقوم بتمثيلها المرأة - خاصة على المسرح في فرقة يوسف خياط - كان يعهد فيها اضطرارا إلى غلام لم يتمكن من الإجادة في تمثيلها بطبيعة الحال، حتى أن الشيخ القباني نفسه أول الممثلين وأبرعهم في زمانه، كان رغم تقدمه في السن يقوم بدور المرأة، لما كان عليه فن التمثيل من قبيح السمعة، وتكون المرأة كما قدمت معرة قومها إذا جرأت على الاشتراك فيه بعكس الغربيين، وعلى رؤوسهم ملوكهم وعظماؤهم وعلماؤهم وحكماؤهم فإنهم أحلوا هذه المهنة في أعلى منزلة وأرفع مقام من الحضارة والمدنية. وقد عني بتأليفها أكابر شعرائهم، أمثال شكسبير، وموليار، وراسين، وكورنيل، وڤولتير، وڤيكتور هوجو، وبرنارد شو، وغيرهم. فهل في هذه الحالة يتهمون بالزيغ والخبث، والتسكع في بيداء الغرور والغواية؟
صفحة غير معروفة