مقدمة
الموسيقى
نشأة الموسيقى العربية
مبلغ علمنا من الموسيقى في الجاهلية
الألحان العربية القديمة
نواة النهضة الموسيقية العربية
زعيمتا النهضة الموسيقية العربية
العصر المزهر للموسيقى العربية
العصر الذهبي للموسيقى
الموسيقى العربية في الأندلس
الموسيقى الفارسية
الموسيقى في عهد المماليك
الموسيقى الشرقية في تركيا
الموسيقى من عهد محمد علي باشا إلى الآن
الملحنون وعلماء الفن
كيف ترقى الموسيقى الشرقية؟
مقدمة
الموسيقى
نشأة الموسيقى العربية
مبلغ علمنا من الموسيقى في الجاهلية
الألحان العربية القديمة
نواة النهضة الموسيقية العربية
زعيمتا النهضة الموسيقية العربية
العصر المزهر للموسيقى العربية
العصر الذهبي للموسيقى
الموسيقى العربية في الأندلس
الموسيقى الفارسية
الموسيقى في عهد المماليك
الموسيقى الشرقية في تركيا
الموسيقى من عهد محمد علي باشا إلى الآن
الملحنون وعلماء الفن
كيف ترقى الموسيقى الشرقية؟
الموسيقى الشرقية
الموسيقى الشرقية
ماضيها، حاضرها، نموها في المستقبل
تأليف
محمد كامل حجاج
مقدمة
اتفق علماء النفس ومن إليهم على أن الموسيقى هي لغة الروح التي بها تتخاطب فتتجاذب، وأنها من أكبر الذرائع لتطهير النفوس، وتهذيب الأخلاق، وترقية المدارك والأذواق؛ ولهذا عمل العاملون في الغرب - وتبعهم المجتهدون في الشرق - على تعميم تعليمها، بيد أن الشرقيين ما زالوا متباطئين في سيرهم، وإن كان منهم أفذاذ أخذوا يدأبون بكل ما أوتوا من المواهب لإحياء فنونها، وإعلاء شئونها، وفي مقدمتهم ذلك الفنان العظيم منشئ مقالتنا هذه؛ فإنه أتى على تاريخ الموسيقى الشرقية وتدرجها وتطورها من لدن ظهورها إلى هذه الأيام بمادة غريزة، وفكر متوقد، وقلم سيال، مع أنه من غير المنتسبين إلى أربابها، ولا من المشتهرين بها، فحاز - بحق - قصب السبق في المسابقة التي أجراها جناب الخواجا نقولا سرسق، وجيه الإسكندرية وعميد الموسيقى بها، ونال جائزتها بإصابة الغرض، والوصول إلى الغاية. ولقد سابقه غيره في نيلها فلم يسبقه، وأراد اللحاق به سواه فلم يلحقه، وإن كانا استحثا في الميدان سوابق الجياد، وأسلسا القياد. وها هي مقالته نقدمها بكل فخر واغتباط إلى الناطقين بالضاد من محبي هذا الفن الجميل.
الموسيقى
إن سألنا العلماء عن الموسيقى أجابونا بأنها فن تركيب الأصوات بطريقة تشنف الأسماع، أو قالوا لنا: إنها فن الأصوات وارتباطها باللحن والوزن والانسجام.
وإن سألنا الشعراء قالوا لنا: إن الموسيقي لينظم بالأصوات كما ينظم الشاعر بالحروف، وإن سألنا علماء النفس البسيكولوجيين أجابونا بأنها: قوة فتانة ساحرة، وفن يعبر به الإنسان عن وجدانه وشعوره بأنغام أفصح من النطق، وأبلغ من البيان، وأقرب منهما تناولا للأذهان.
وقد اتفق علماء النفس على أن الكلام غير كاف للتعبير عن الشعور تعبيرا تاما، وأن الموسيقى وحدها هي القادرة على سد هذا النقص.
وإني أورد مثالا سهلا يبين لنا كيف تعبر الموسيقى الإلقائية بلفظ واحد عن عدة عواطف.
يشنف المعنى أسماعنا فنريد أن نعبر له عن إعجابنا فنقول له: الله! ونلفظها بنغمة مخصوصة، ونطيل المد الواقع قبل الهاء. وإذا فاجأت طفلك وهو متربع فوق التراب بثوبه الجديد الذي اشتريته بدينارين؛ فإنك تستنكر فعلته وتقول له: الله الله! بنغمة أخرى، وفتح هاء الأولى لوصلها بالثانية مع مد متوسط، وإن فاجأك أحد بخبر مكدر قلت: الله! بنغمة مغايرة، ناطقا اللام المشددة بقوة عظيمة وحاذفا المد.
الموسيقى نعمة من أجل النعم، لا ينكر فضلها أحد؛ إذ هي غذاء الأفئدة، ومهذبة النفوس، ومفرجة الكروب، ومسكنة الآلام. يصفها الأطباء للعصبيين الذين يفتك بهم الأرق، فإذا سمعوها عند نومهم هدأت أعصابهم الثائرة، وجلبت لهم نعاسا هنيئا. وتستعمل في بيماراستانات أوروبا، فيهرع إليها المجانين، ويسكن اضطرابهم وهياجهم وقت التوقيع.
لم يقتصر تأثيرها على الإنسان وحده، بل هيمن على الحيوان؛ إذ نشاهد أن الخيل والحمير وغيرها كثيرا ما تجفل وقت شربها، فيصفر لها راعيها فتطمئن وتشرب.
ونرى الإبل حينما يتملكها النصب، من وعثاء السفر وهجير البادية، فتتثاقل خطاها، وتميل أعناقها، فيحدوها سائقها بشجي الحداء، فتنشط وتسرع السير وهي مشرئبة الأعناق متهللة مستبشرة.
وللموسيقى تأثير عظيم في الثعابين والأفاعي، تلك الهوام الخبيثة التي جبلت على الشر والأذى؛ إذ يشاهد في الهند أناس يعرفون بحواة الثعابين
Charmeurs de serpents
يعزفون بمزمار يعرف عندهم باسم «تومريل»، وهو خاص بالثعابين، ويوقعون عليه ألحانا خاصة، فتهرع إليهم الثعابين من جحورها ، وتقف بين أيديهم ذليلة صاغرة وديعة متجردة من ميولها الخبيثة، فيأخذها الطرب فتلعب وترقص على تلك النغمات.
إنني أسرد لكم بعض ما قاله كبار علماء الموسيقى مصداقا لقولي، وإظهارا لشرفها الجم، قال لوثير المصلح الديني الشهير - وكان موسيقيا فاضلا: «إنني أضع بعد الإلهيات مباشرة الموسيقى، وأمنحها الشرف الثاني.»
وقال «بيتهوڤن» نابغة الموسيقيين: «الموسيقى وحي أعظم وأرفع من جميع الأخلاق والفلسفة. إن هي إلا رحيق ينعشنا ويؤهلنا لجديد الابتداع، بل هي الحياة الخيالية منضمة إلى الحياة المادية، وهي الموصل الوحيد إلى العالم الأعلى؛ عالم المعرفة الذي يشعر به الإنسان، ولا يستطيع ولوجه، وبها ندرك العلم الكامل الإلهي.»
وقال «ڤاجنر» الموسيقي الطائر الصيت: «القلب هو الصوت، وما الموسيقى إلا لغته الفنية، بل الهوى الذي يفيض ويسيل من الأفئدة.»
وقال غيره: «الموسيقى لغة غزيرة المعاني، خفية الأسرار، توقظ التقوى، وتخاطب الشعور مباشرة بغير واسطة.»
إن أنعمنا النظر في الفنون الجميلة؛ كالشعر والموسيقى والتصوير والحفر والتمثيل والرقص، لوجدنا أن الموسيقى أكثر تداولا وانتشارا حتى بين الأمم الوحشية، فأصبحت كأنها من لوازم الحياة.
لا توجد أمة متمدينة أو وحشية إلا والموسيقى منتشرة بينها، وإذا تصفحنا التاريخ وجدناها في العصور الخالية. وأقدم دليل هو صورة محفورة على الأحجار تمثل شخصا يوقع على آلة موسيقية تسمى «هارب» وجدت في بلاد الكلدانيين، وعثر عليها المسيو «سرزيك» في قصر «تللو» على الشاطئ الأيسر من قناة تربط الدجلة بالفرات. وقد قرر تاريخها أفاضل العلماء مثل «پواتييه» بثلاثين قرنا قبل الميلاد، ولا مشاحة في أن الموسيقى أقدم من الشعر، وهي التي نفحته بقوانينه الخاضع لها.
ترتبط الموسيقى بأجمل العلوم، ويتسنى طرق أبوابها من جهات مختلفة، وفضلها لا يلبث أن يظهر من جميع الوجوه؛ إذ تتعلق بالطبعي والفسيولوجي، فإن كانا مزودين بطرق التحاليل والبحث العالية حددا نواميسها، وكشفا لنا فيها عالما مفعما بالعجائب. وترتبط بالفيلسوف الذي يستطيع أن يبين لنا أنها تسعد النفوس بشريف العواطف وجليل الفكر، وتتعلق بالمؤرخ الذي يظهر لنا تقدمها وما صادفها من التقلبات، وعلاقاتها بالتاريخ العام للأخلاق والعادات ، ودورها في حركات المدنية، وترتبط بعلماء الجمال فتنفحهم مقرا رفيعا غريبا يدرسون فيه آيات جمالها وأشكالها.
نشأة الموسيقى العربية
تنشأ الموسيقى مع العمران إذا توفر وتجاوز حد الضروري إلى الحاجي ثم إلى الكمالي؛ إذ الإنسان مطبوع بفطرته أن يبحث أولا عن ضرورياته، ثم عن حاجياته التي هي أهون من الضروريات، فإذا خلا باله، واطمأن ضميره؛ تفنن في الكماليات والملذات، وأفضلها عند جميع الأمم الموسيقى. وقد نشأت وأزهرت في بلاد فارس قبل ظهورها في بلاد العرب بقرون، فاهتم بها الأكاسرة، وأحلوها المحل الأرفع، ودونوا أصولها وقواعدها وقوانينها حتى أصبحت منبعا سائغا نهل من موارده الشرق بأجمعه.
وأما العرب فظهر عندهم أولا الشعر؛ يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها في عدة حروفها المتحركة والساكنة، ويفصلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلا يكون كل جزء منها مستقلا بمعنى يؤديه، لا ينعطف على الآخر، ويسمونه بالبيت. فترى الشعر العربي في وزنه وانسجامه، وحركاته وسكناته المعدودة، وقوافيه المتحدة الرنانة موسيقيا بمعنى الكلمة، لا يحتاج من يريد أن يلحنه إلى مجهود عظيم. وهذه المزايا لا توجد في الشعر الأجنبي، وتدل على أن العربي موسيقي بطبيعته وفطرته.
ابتدأت الموسيقى العربية بالحداء؛ إذ تغنى الحداة منهم لإبلهم، والفتيان في فضاء خلواتهم، فرجعوا الأصوات وترنموا، وربما ناسبوا في غنائهم بين النغمات مناسبة بسيطة، وكانوا يسمونه بالسناد، وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الذي يرقص عليه، ويمشي بالدف والمزمار، فيطرب ويستخف الحلوم. وكانوا يسمون هذا الهزج. وهذا البسيط كله من التلاحين هو من أوائلها، ولا يبعد أن تتفطن له الطباع من غير تعليم، شأن البسائط كلها من الصناعات. ولم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليتهم حتى جاء الإسلام، وفتحوا الفتوحات، واستولوا على الممالك، فلما جاءهم الترف، وغلب عليهم الرفه، بما حصل لهم من غنائم الأمم، صاروا إلى نضارة العيش، ورقة الحاشية، واستملاء الفراغ، وافترق المغنون من الفرس والروم، فوقعوا إلى الحجاز، وصاروا موالي للعرب، وغنوا جميعا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير، وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم .
مبلغ علمنا من الموسيقى في الجاهلية
غير خاف أن تاريخ الجاهلية غامض جدا، ولم يقع تحت أيدينا إلا نتف مبعثرة وقليل من أشعارهم. وهذا يرجع إلى أمية العرب؛ إذ كان لا يوجد فيهم من يعرف القراءة غير الكهان، وكانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة.
ويظهر أن الغناء في عصر الجاهلية كان قاصرا على القيان وحدهن؛ إذ لم نسمع فيما وصل إلينا من أخبارهم عن رجال مغنين.
وأقدم ما عرف من أخبار قيانهم خبر جرادتي عاد اللتين يضرب بهما المثل العربي: «تركته تغنيه الجرادتان.» وهو يضرب لمن كان لاهيا في نعمة ودعة. والجرادتان قينتان لمعاوية بن بكر، أحد العماليق. وإن عادا لما كذبوا النبي هودا - عليه السلام - توالت عليهم ثلاث سنوات لم يروا فيها مطرا، فبعثوا من قومهم وفدا إلى مكة ليستقوا لهم، ورأسوا عليهم قيل بن عنق، ولقيم بن هزال، ولقمان بن عاد - وكان أهل مكة إذ ذاك العماليق، وهم بنو عمليق بن لاوذ بن سام، وكان سيدهم بمكة معاوية بن بكر - فلما قدموا نزلوا عليه لأنهم كانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرا، وكان يكرمهم والجرادتان تغنيانهم، فنسوا قومهم شهرا، فقال معاوية: هلك أخوالي، ولو قلت لهؤلاء شيئا ظنوا بي بخلا، فقال شعرا وألقاه إلى الجرادتين، فأنشدتاه وهو:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم
لعل الله يبعثها غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا
قد امسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو
لها الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير
فقد أمست نساؤهم أيامى
وإن الوحش يأتيهم جهارا
ولا يخشى لعادي سهاما
وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم
نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم
ولا لقوا التحية والسلاما
فلما غنتهم الجرادتان بهذا قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنما بعثكم قومكم يستسقون بكم، فقاموا ليدعوا وتخلف لقمان - وكانوا إذا دعوا جاءهم نداء من السماء أن سلوا ما شئتم؛ فتعطون ما سألتم - فدعوا ربهم، واستسقوا لقومهم، فأنشأ الله لهم ثلاث سحابات بيضاء وحمراء وسوداء، ثم نادى مناد من السماء : يا قيل ، اختر لقومك ولنفسك واحدة من هذه السحائب. فقال: أما البيضاء فجفل، وأما الحمراء فعارض، وأما السوداء فهطلة، وهي أكثرها ماء، واختارها، فنادى مناد: قد اخترت لقومك رمادا رمددا لا تبقي من عاد أحدا، لا والدا ولا ولدا إلا تركته همدا.
ولما عاد الوفد لقومهم، وبينما هم ينتظرون الغيث، وإذا بالسحابة قد خرجت عليهم، وقبل أن يتبينوا ما فيها من العذاب فرحوا واستبشروا، وقالوا: هذا عارض ممطرنا، فقيل لهم: بل هو ما استعجلتم به؛ ريح فيها عذاب أليم، تدمر كل شيء بأمر ربها، فسلطها الله عليهم فأهلكتهم ودمرت مساكنهم، وذكر الله خبرهم في القرآن إذ قال:
سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما * فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية .
أما جرادتا النعمان، فكل ما علم عنها أنهما كانتا قينتين تغنيانه، والغالب أنه سماهما بالجرادتين تشبيها لهما بجرادتي عاد.
وكذلك جرادتا عبد الله بن جدعان، وقد سماهما أيضا جرادتي عاد، وقد وهبهما لأمية بن أبي الصلت، الشاعر الذي كان يفد عليه ويمدحه، ولا يعلم من غنائهما إلا صوتان «لحنان»؛ أحدهما أوله:
أقفر من أهله مصيف
فبطن نخلة فالعريف
ولحنه من خفيف الثقيل، وهو من المائة صوت المختارة، والثاني أوله:
عطاؤك زين لامرئ إن حبوته
ببذل وما كل العطاء يزين
ولا يعلم مقامه «نغمته».
الألحان العربية القديمة
ترك لنا العرب ميراثا عظيما من الألحان والموشحات، ولكنه لا يساوي شيئا؛ لأنهم لم يدونوا تلحينهم، بل كانوا يتناقلون ألحانها بالسماع والتواتر.
وقد أثبت الأصبهاني في كتابه الأغاني ألوفا مؤلفة من الألحان، ووضح المقامات والضروب التي لحنت منها. وهذا لا يفيد شيئا، وأصبح هذا العدد الضخم أمام أعيننا كهياكل عظمية لا نستدل على شيء من حسن موسيقاها، ودقة صناعتها.
ظهرت «النوتة» العربية متأخرة في القرن السابع تقريبا، وهو العصر الذي وجد فيه عبد المؤمن البغدادي؛ لأنه مات سنة 656 هجرية. وهو أقدم من ذكر هذه الرموز. وقد رد حضرة الفاضل إسكندر أفندي شلفون على المسيو روانيه
J. Rouanel
صاحب الرسالة الخاصة بالموسيقى العربية في دائرة معارف المسيو لافنياك
Lavignac ، الذي يشك في النوتة العربية؛ لأنه لم يعترف بها غير المسيو د. ج. ا. كونديه
D. J. A. Condé ، والمسيو سوريانو فويرتيس
Soriano Fuertes ؛ إذ قال الأخير في كتابه «الموسيقى العربية الأندلسية»، الذي ظهر في برشلونة «إسبانيا» سنة 1852:
إن العرب قبل فتحهم لإسبانيا قد استعملوا - على ما يظن - السبعة الأحرف الأولى من حروفهم الهجائية، والسبعة الألوان التي كانت تميز طول أو قصر الزمن للنوتات كاستعمال السبعة الأشكال المستعملة الآن في النوتة العصرية. وهذه العلامات كانت توضع على السبعة الأبعاد الموجودة على الثمانية الخطوط الأفقية، فكان الأسفل منها يدل على صوت «ألف»، التي كانت أضخم قرارات طريقتهم، وباتباع هذا الترتيب كان الصوت الأحد «أعلى الجواب» يشغل البعد الأخير من الخطوط.
وكان اللون الأصفر حينما يوضع على أي خط من الثمانية الخطوط يدل على أن البعد الذي فوقه مباشرة يساوي العلامة «دال»، وأن الوردي الرائق يساوي «الألف» الحادة «ألف الجواب».
وبخلاف السبعة الألوان التي كانت تدل على المقدار الثابت للأصوات، كان العرب يستعملون بعض علامات تدل على زمنها المطلق على حسب ما يراد توقيعها بسرعة - كطريقة مجموعاتنا الثنائية أو الثلاثية أو أكثر من نوتاتنا المستعملة في الحلية والمسماة
appogiatures - وهذه الشرطات سواء أكانت صاعدة أم هابطة تدون بعلامة فرجول
virgule
تخترق أبعاد الخطوط، أو ترتكز على الخطوط.
ويؤكد المسيو سوريانو دون أن يأتي لنا بدليل ما، سواء أكانوا استعاروا هذه الطريقة من اليونان قبل فتح الأندلس، أو في عهد الفتح ودونوا «نوتة» لموسيقاهم الثمانية الخطوط، التي ابتدعها الإسبانيون باستعمالهم الأشكال البيضاوية المسماة بركوس أو بركيوس
barcos ou barquillos ، التي كان يستعملها الملحنون من القرن الخامس عشر إلى السابع عشر. وقد استنتج هذا المؤلف دون إثبات أن العرب في الأندلس كانوا يستعملون في الوقت نفسه «الأرموني» بعكس عرب الشرق، ولكن المسيو روانيه لم يستدل في أبحاثه على دليل قاطع يثبت ذلك، وقد قرأ كل مؤلف في الموسيقى العربية من صدر الإسلام إلى الآن، حتى المؤلفات المصرية: ككتاب الموسيقى الشرقي لكامل أفندي الخلعي، وكتب الديك ودرويش أفندي وغيرها.
ويستنتج مما سردناه أن النوتة العربية، سواء أصح خبرها أم لم يصح، لم تظهر قبل القرن السابع؛ أي بعد العصرين الزاهرين؛ وهما: الأموي والعباسي. وإن تصفحنا الأحد والعشرين جزءا لكتاب الأغاني لم نجد فيها جملة واحدة تنص على وجود «النوتة» في تلك العصور التي تكلم عنها، ولم يعثر على مجموعات من الألحان مكتوبة بالنوتة فيما خلفه العرب من الكتب في مكاتب الدنيا الشهيرة.
وقد ذكر حضرة شلفون أفندي دورين من كتاب «الأدوار في حل الأوتار» للكامل بن سبعين، وقال: «إنهما من الأدوار العربية القديمة.» ولكن القارئ بمجرد نظرة قصيرة يعرف لأول وهلة أنهما سخيفان من الألفاظ الموزونة كالتي يرصها الفقهاء العصريون وينشدونها في الذكر. وهذا من الأسباب القوية التي تثير الشكوك. وها هما الدوران:
نوروز «ضرب الرمل»
على صبكم يا حاكمين ترفقوا
ومن وصلكم يوما عليه تصدقوا
ولا تتلفوه بالصدود فإنه
يحاذر أن يشكو إليكم ويشفق
كواشت «ضرب الرمل»
على الهجر لا والله ما أنا صابر
وغيري على فقد الأحبة قادر
كتمت هواكم خيفة من عواذلي
ولي ولكم عند اللقاء سرائر
نواة النهضة الموسيقية العربية
سائب خاثر
أجمع الثقات، مثل الأصبهاني وابن خلدون وغيرهما، على أن نواة النهضة الموسيقية في البلاد العربية هو سائب خاثر؛ إذ لم تبلغ الموسيقى العربية قبله مبلغها من الإتقان وجودة الصناعة. وهو ابن راسم، فارسي من موالي بني ليث، ولزم عبد الله بن جعفر وانقطع إليه.
كان في أول أمره مغنيا بسيطا، ولما قدم إلى المدينة نشيط الفارسي وغنى بالفارسية أعجب به عبد الله بن جعفر؛ لجمال صوته وحسن فنه، فلما سمعه سائب خاثر قال لعبد الله بن جعفر: أنا أصنع لك مثل غناء هذا الفارسي بالعربية، ثم غدا عليه وقد لحن:
لمن الديار رسومها قفر
لعبت بها الأرواح والقطر
وخلا لها من بعد ساكنها
حجج مضين ثمان أو عشر
والزعفران على ترائبها
شرق به اللبنات والنحر؟
والغناء من الثقيل الأول بالسبابة، وهو أول صوت غني به في الإسلام من الغناء العربي المتقن الصنعة .
ومن ذاك الوقت طفق يلحن أصواتا فنية متقنة حتى ذاع صيته. وقد اصطحبه عبد الله بن جعفر حينما وفد على معاوية بن أبي سفيان، ثم عرض عليه بعض حوائجه، ثم ثنى بحاجة لسائب خاثر، فقال له معاوية: من سائب خاثر؟ قال: رجل من أهل المدينة ليثي يروي الشعر. قال: أوكل من روى الشعر أراد أن نصله؟ فقال: إنه أحسنه، قال: وإن أحسنه! قال: فأدخله إليك يا أمير المؤمنين، قال: نعم! فلما دخل قام على الباب ثم رفع صوته يتغنى:
لمن الديار رسومها قفر
فالتفت معاوية إلى عبد الله بن جعفر فقال: أشهد لقد حسنه! فقضى حوائجه وأحسن إليه.
وفي ليلة أشرف معاوية على منزل يزيد ابنه، فسمع صوتا أعجبه واستخفه السماع، فاستمع قائما حتى مل الوقوف، ثم دعا بكرسي فجلس عليه واشتهى الاستزادة، فاستمع بقية ليلة حتى مل، فلما أصبح غدا على يزيد فقال له: يا بني، من كان جليسك البارحة؟ فقال: أي جليس يا أمير المؤمنين؟ واستعجم عليه، قال: عرفني؛ فإنه لم يخف علي شيء من أمرك، قال: سائب خاثر، فقال: فاختر له، يا بني، من برك وصلتك؛ فما رأيت بمجالسته بأسا.
وقد أخذ عنه الغناء ابنه سريج وجميلة ومعبد وعزة الميلاء وغيرهم.
زعيمتا النهضة الموسيقية العربية
كانت عزة الميلاء مولاة للأنصار، ومسكنها المدينة، وهي أقدم من غنى الغناء الموقع من النساء بالحجاز، وماتت قبل جميلة، وكانت من أجمل النساء وجها، وأحسنهن جسما، وسميت الميلاء لتمايلها في مشيتها.
وقال معبد: كانت عزة الميلاء ممن أحسن ضربا بعود، وكانت مطبوعة على الغناء لا يعيها أداؤه ولا صنعته ولا تأليفه، وكانت تغني أغاني القيان من القدائم؛ مثل سيرين وزرنب والرباب وسلمى ورائقة. وكانت رائقة أستاذتها. فلما قدم نشيط وسائب خاثر المدينة غنيا أغاني بالفارسية، فتلقنت عزة عنهما نغما، وألفت عليها ألحانا عظيمة عجيبة.
وكان ابن سريج في حداثة سنه يأتي المدينة ويسمع من عزة، ويتعلم غناءها، ويأخذ عنها، وكان بها معجبا، وكان إذا سئل: من أحسن الناس غناء؟ قال: مولاة الأنصار «عزة» المفضلة على كل من غنى وضرب بالمعازف والعيدان من الرجال والنساء.
وكان ابن محرز يقيم بمكة ثلاثة أشهر، ويأتي المدينة فيقيم بها ثلاثة أشهر من أجل عزة، وكان يأخذ عنها، وكان طويس أكثر ما يأوي منزل عزة الميلاء، وكان في جوارها، وكان إذا ذكرها يقول: هي سيدة من غنى من النساء مع جمال بارع، وخلق فاضل، وإسلام لا يشوبه دنس، تأمر بالخير وهي من أهله، وتنهى عن السوء وهي مجانبة له، فناهيك ما كان أنبلها وأنبل مجلسها، ثم قال: كانت إذا جلست جلوسا عاما فكأن الطير على رءوس أهل مجلسها. من تكلم أو تحرك نقر رأسه.
جميلة
هي جميلة مولاة بني سليم، ثم مولاة بطن منهم يقال لهم: بنو بهز، وكان لها زوج من موالي بني الحارث من الخزرج، وكانت تنزل فيهم، فغلب عليها ولاء زوجها، فقيل: إنها مولاة للأنصار.
وهي الزعيمة الثانية للنهضة الموسيقية العربية، وأصل من أصول الغناء، وعنها أخذ معبد وابن عائشة وحبابة وسلامة القس وعقيلة العقيقية والشماسيتان خليدة وربيحة، وفيها يقول عبد الرحمن بن أرطأة:
إن الدلال وحسن الغنا
ء وسط بيوت بني الخزرج
وتلكم جميلة زين النساء
إذا هي تزدان للمخرج
إذا جئتها بذلت ودها
بوجه منير لها أبلج
وكانت جميلة أعلم خلق الله بالغناء، وكان معبد يقول: أصل الغناء جميلة، وفرعه نحن، ولولا جميلة لم نكن نحن مغنين، ولقد سئلت يوما: أنى لك هذا الغناء؟ قالت: والله ما هو إلهام ولا تعليم، ولكن أبا جعفر - سائب خاثر - كان لنا جارا، وكنت أسمعه يغني ويضرب بالعود فلا أفهمه، فأخذت تلك النغمات، فبنيت عليها غنائي، فجاءت أجود من تأليف هذا الغناء، فعلمت وألقيت، فسمعني مولياتي يوما وأنا أغني سرا، ففهمنني ودخلن علي وقلن: قد علمنا ما تكتمينا، فأقسمن علي فرفعت صوتي وغنيتهن بشعر زهير بن أبي سلمى:
وما ذكرتك إلا هجت لي طربا
إن المحب ببعض الأمر معذور
ليس المحب كمن أن شط غيره
هجر الحبيب وفي الهجران تغيير
صوت
نام الخلي فنوم العين تقرير
مما ادكرت وهم النفس مذكور
ذكرت سلمى وما ذكري براجعها
ودونها سبسب يهوي به المور
وهو رمل بالوسطى، فحينئذ ظهر أمري، وشاع ذكري، فقصدني الناس وجلست للتعليم. ولقد كسبت لموالي ما لم يخطر لهن ببال.
وقد حجت جميلة، وخرج معها من المغنين مشيعين حتى وافوا مكة ورجعوا معها، من الرجال المشهورين المعدودين في الغناء: هيت، وطويس، والدلال، ونؤمة الضحى، وقند، ورحمة، وهبة الله، وهؤلاء مشايخ، وكلهم طيب الغناء، ومعبد، ومالك، وابن عائشة، ونافع بن طنبورة، وبذيح المليح، ونافع الخير، ومن النساء المغنيات: الفرهة عزة الميلاء، وحبابة، وسلامة، وخليدة، وعتيلة، والشماسية، وفرعة، وبلبلة، ولذة العيش، وسعيدة، والزرقاء، ومن الشعراء: الأحوص، وكثير عزة، ونصيب، وزهاء خمسين قينة وجه بهن مواليهن معها، فأعطوهن النفقات وحملوهن على الإبل في الهوادج والقباب، فأبت جميلة أن تنفق واحدة منهن درهما فما فوق حتى رجعن. ولما قاربوا مكة تلقاهم سعيد بن مسجح، وابن سريج، والغريض، وابن محرز، والهذليون، وعدد عظيم من الشعراء والأشراف: كعمر بن أبي ربيعة، والحارث بن خالد المخزومي، والعرجي، وخرج أبناء أهل مكة من الرجال والنساء ينظرون إلى جمعها وحسن هيئتهم.
ولما مضى على مقدمها عشرة أيام، جلست بمنزلها للغناء، وحضر عندها كل من سردناهم من المغنين، وعمر بن أبي ربيعة الشاعر، وغنوا جميعا أفرادا وجماعات. ومن ظرفها وآدابها أنها كانت تعجب بكل منهم، وتظهر محاسنه وشخصيته دون أن تفضل أحدا على الآخر، ثم غنت هي بدورها، واستمروا على ذلك ثلاثة أيام لم يشاهد مثلها ولا عند الأمراء والخلفاء.
العصر المزهر للموسيقى العربية
ازدهرت الموسيقى في عصر بني أمية، وخطا الفن خطوات واسعات نحو التقدم والجمال، وظهر في وقت واحد فحول المغنين والملحنين؛ مثل: ابن سريج، ومعبد، والغريض، وابن محرز، ومالك، وحنين الحيري، وابن عائشة، وعزة الميلاء، وجميلة وغيرهم.
لم يقتصر تعضيد الموسيقيين على الخلفاء، بل سرى إلى الأشراف والنبلاء والسراة، ونخص بالذكر عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فإن سائب خاثر ونشيطا الفارسيين كانا منقطعين إليه وملازمين له، وكانت له مجالس طرب عظيمة يدعو إليها مشاهير المغنين ممن سبق ذكرهم، ويبذل لهم العطاء، وكذلك السيدة سكينة - رضي الله عنها - كانت مشغوفة بالغناء والموسيقى، وذات ذوق سليم فيهما، وكانت تغدق البذل والهبات للمغنين، وكانت ذات كرم حاتمي، وحينما يكون عندها حفلة طرب تفتح دارها لجميع الناس دون قيد ولا شرط، ولقد سقط عرش دارها مرة حينما اكتظت الدار بالسامعين، ومات في هذه الحادثة حنين الحيري. وقد ذكرنا ذلك في موضعه.
وإننا نخصص جزءا صغيرا من بحثنا هذا للتكلم على المشاهير من فحول المغنين الذين ازدهر بهم عصرهم، ورفعوا شأن الموسيقى العربية.
ابن مسجح
سعيد بن مسجح مولى بني جحح، مكي أسود مولد مغن متقدم من فحول المغنين وأكابرهم، وأول من صنع الغناء منهم، ونقل غناء الفرس إلى غناء العرب ثم رحل إلى الشام، وأخذ ألحان الروم والبربطية والأسطوخوسية، وانقلب إلى فارس وأخذ بها غناء كثيرا، وتعلم الضرب ثم قدم إلى الحجاز، وقد أخذ محاسن تلك النغم، وألقى منها ما استقبحه من النبرات والنغم التي هي موجودة في نغم غناء الفرس والروم خارجة عن غناء العرب، وغنى على هذا المذهب، فكان أول من أثبت ذلك ولحنه، وتبعه الناس بعد.
وقد جاءته هذه الفكرة حينما احترقت الكعبة، وجلب لها ابن الزبير بنائين من الفرس، فسمع غناءهم فراقه، فقلبه في شعر عربي. وهو الذي علم ابن سريج والغريض. ولقد عاش حتى لقيه معبد، وأخذ عنه أيضا الغناء في أيام الوليد بن عبد الملك.
طويس
طويس لقب غلب عليه، واسمه عيسى بن عبد الله، وهو مولى بني مخزوم. ولد يوم مات النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان ظريفا عالما بأمر المدينة وأنساب أهلها، وهو أول من تغنى بالمدينة غناء يدخل في الإيقاع. وعمر حتى مات في خلافة الوليد بن عبد الملك.
ابن سريج
هو عبد الله بن سريج مولى بني نوفل بن عبد مناف، من فحول المغنين، وكان آدم، أحمر ظاهر الدم، سناطا؛ لا تنبت لحيته، في عينيه حول وعمش، أصلع الرأس. عاش خمسا وثمانين سنة، وكان لا يغني إلا إذا أسبل القناع على وجهه. وقد غنى في زمان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ومات بعد قتل الوليد بن يزيد.
وهو أول من ضرب بالعود على الغناء العربي، وذلك أنه رآه مع العجم الذين قدم بهم ابن الزبير لبناء الكعبة.
وقد أخذ الغناء عن ابن مسجح، وانقطع إلى عبد الله بن جعفر، وبعد وفاته لزم الحكم بن المطلب، أحد بني مخزوم، وكان من سادة قريش ووجوهها.
وقد اختلف الرواة في المفاضلة بين معبد وابن سريج، والظاهر أن ابن سريج لتقليده النساء في الغناء ظن مريدوه أنه أفضل من معبد. وإن الشعر لأصدق من الروايات المختلفة، وقد ذكرنا البيت في موضعه وهو:
أجاد طويس والسريجي بعده
وما قصبات السبق إلا لمعبد
معبد
هو معبد بن وهب مولى بن قطر، وكان أبوه أسود؛ فلذلك جاء معبد ابنه خلاسيا، وكان مديد القامة أحول. وقد أخذ الغناء عن سائب خاثر ونشيط الفارسيين وجميلة؛ أي في عصر معاوية بن أبي سفيان. وقد قال فيه الشاعر:
أجاد طويس والسريجي بعده
وما قصبات السبق إلا لمعبد
وقد ذكر إسحق الموصلي أن معبدا كان من أحسن الناس غناء، وأجودهم صنعة وأحسنهم خلقا، وهو فحل المغنين وإمام أهل المدينة في الغناء.
وذكر إسحاق الموصلي أيضا أنه قيل لمعبد: كيف تصنع إذا أردت أن تصوغ الغناء؟ قال: أرتحل قعودي، وأوقع بالعصا على رحلي، وأترنم عليه بالشعر حتى يستوي لي الصوت.
ولما مات مشى في جنازته الخليفة الوليد بن يزيد وأخوه الغمر، وكانت سلامة القس، المغنية الشهيرة جارية الوليد، ممسكة بنعشه تبكي وتندبه بهذا الصوت الذي تلقته منه:
قد لعمري بت ليلي
كأخي الداء الوجيع
ونجي الهم مني
بات أدنى من ضجيعي
كلما أبصرت ربعا
خاليا فاضت دموعي
قد خلا من سيد كا
ن لنا غير مضيع
لا تلمنا أن خشعنا
أو هممنا بخشوع
الغريض
لقب بالغريض لأنه كان طري الوجه نضرا، غض الشباب، حسن المنظر، واسمه عبد الملك، وهو مولى العبلات. وكان يضرب بالعود وينقر بالدف ، وكان في أول أمره خياطا، ثم أخذ الغناء عن ابن سريج، وقد دفعته مولياته إليه ليعلمه الغناء، فلما رأى منه حسن صوته وظرفه خشى أن يأخذ غناءه ويغلبه عليه عند الناس، ويفوقه بحسن وجهه وجسده، فاعتل عليه وشكاه إلى مولياته، وجعل يتجنى عليه ثم طرده. وقد ابتدأ بالنوح ثم تدرج إلى الغناء، ولما كثر غناؤه اشتهاه الناس. وكان ابن سريج لا يغني صوتا إلا عارضه فيه الغريض لحنا آخر.
كان غناؤه متشابها مع ابن سريج، وقد قالت السيدة سكينة - رضي الله عنها - لما سمعتهما يغنيان لحن:
عوجي علينا ربة الهودج
إنك إلا تفعلي تحرجي
والله ما أفرق بينكما، وما مثلكما عندي إلا كمثل اللؤلؤ والياقوت في أعناق الجواري الحسان، لا يدرى أي ذلك أحسن.
وكان الغريض أشجى غناء، وابن سريج أحكم صنعة. وقد مات في خلافة سليمان بن عبد الملك.
ابن محرز
هو مسلم بن محرز مولى ابن عبد الدار من قصي. وكان يسكن المدينة مرة، ومكة مرة، فإذا أتى المدينة أقام بها ثلاثة أشهر يتعلم الضرب من عزة الميلاء، ثم يرجع إلى مكة فيقيم بها ثلاثة أشهر، ثم يشخص إلى فارس فيتعلم ألحان الفرس وغناءهم، فأسقط من ذلك ما لا يستحسن من نغم الفريقين، وأخذ محاسنها، فمزج بعضها ببعض، وألف منها الأغاني التي صنعها في شعر العرب، فأتى بما لم يسمع مثله، وكان يقال له: صناج العرب.
وقد قال إسحاق الموصلي: إن ابن محرز هو أول من غنى بالرمل في العرب والفرس، وأول من غنى الرمل بالفارسية «سلمك» في أيام الرشيد؛ لأنه استحسن لحنا من ألحان ابن محرز، فنقل لحنه إلى الفارسية.
وقد ابتدأ بأخذ الغناء عن ابن مسجح، وكان إسحاق يقول: الفحول: ابن سريج، ثم ابن محرز، ثم معبد، ثم الغريض، ثم مالك.
مالك بن أبي السمح
هو مالك بن أبي السمح، واسم أبي السمح جابر بن ثعلبة الطائي، وقد أخذ الغناء عن جميلة ومعبد حتى أدرك الدولة العباسية، وكان منقطعا إلى بني سليمان بن علي، ومات في خلافة أبي جعفر المنصور. وكان ينقح ألحان غيره من المغنين، وله ألحان خاصة.
ابن عائشة
هو محمد بن عائشة، وكان يفتن كل من سمعه، وقد أخذ عن معبد ومالك، ولم يموتا حتى ساواهما على تقديمه لهما واعترافه بفضلهما، ومات في عصر الوليد بن يزيد.
حنين الحيري
هو حنين بن بلوع الحيري، مختلف في نسبه؛ فقيل: إنه من العباديين من تميم، وقيل: إنه من بني الحرث بن كعب، وكان شاعرا رقيقا مغنيا فحلا من فحول المغنين، وله صنعة فاضلة متقدمة، وكان مسيحيا يسكن الحيرة، ويكري الجمال إلى الشام وغيرها.
وفي صغره كان غلاما يحمل الفاكهة بالحيرة، وكان لطيفا في عمل التحيات، فكان إذا حمل الرياحين إلى بيوت الفتيان، ومياسير أهل الكوفة، وأصحاب القيان والمتطربين إلى الحيرة، ورأوا رشاقته وحسن قده، وحلاوته، وخفة روحه؛ استحلوه، وأقام عندهم، وخف لهم، فكان يسمع الغناء بشهية ويصغي إليه، فلا يكاد ينتفع به في شيء إذا سمعه، حتى شدا منه أصواتا فأسمعها الناس، وكان مطبوعا حسن الصوت، واشتهوا غناءه والاستماع منه وعشرته، وشهر بالغناء ومهر فيه، وبلغ منه مبلغا عظيما، ثم رحل إلى عمر بن داود الوادي وإلى حكم الوادي، وأخذ منهما، وغنى لنفسه في أشعار الناس، فأجاد الصنعة وأحكمها، ولم يكن بالعراق غيره.
وكان المغنون في هذا العصر أربعة: ثلاثة بالحجاز؛ وهم: ابن سريج ومعبد والغريض، والرابع: حنين بالحيرة. وقد بلغ الثلاثة أن حنينا غنى:
هلا بكيت على الشباب الذاهب
وكففت عن ذم المشيب الآيب
فتذاكروا بينهم وقالوا: ما في الدنيا أهل صناعة شر منا؛ لنا أخ بالعراق ونحن بالحجاز لا نزوره ولا نستزيره! فكتبوا إليه ووجهوا له نفقة، وقالوا في رسالتهم: نحن ثلاثة وأنت وحدك، فأنت أولى بزيارتنا. فشخص إليهم، فلما كان على مرحلة من المدينة بلغهم خبره، فخرجوا يتلقونه، فلم ير يوم كان أكثر حشرا ولا جمعا من يومئذ. ودخلوا، فلما صاروا في بعض الطريق قال لهم معبد: صيروا إلي! فقال له ابن سريج: إن كان لك منه الشرف والمروءة ما لمولاتي سكينة بنت الحسين - رضي الله عنهما - عطفنا إليك، فقال: ما لي من ذلك شيء، وعدلوا إلى منزل السيدة سكينة، فلما دخلوا إليها أذنت للناس إذنا عاما، فغصت الدار بهم وصعدوا فوق السطح، وأمرت لهم بالأطعمة، فأكلوا منها ثم سألوا حنينا أن يغنيهم صوته الذي أوله:
هلا بكيت على الشباب الذاهب
فغناهم إياه - وكان من أحسن الناس صوتا - فازدحم الناس على السطح ليسمعوه، فسقط الرواق على من تحته، فسلموا جميعا وأخرجوا أصحاء، ومات حنين تحت الهدم، فقالت السيدة سكينة: لقد كدر علينا حنين سرورنا؛ انتظرناه مدة طويلة كأنا - والله - كنا نسوقه إلى منيته.
العصر الذهبي للموسيقى
انتهى العصر المزهر في زمن الأمويين، ويكون من سبق ذكرهم هم وغيرهم من معاصريهم المذهب القديم
l’ecole classique .
ولقد أخذت الموسيقى في عصر العباسيين تخطو خطوات واسعة نحو التقدم، وتتطور إلى الكمال، حتى جاء إسحاق الموصلي فأبلغها ذروة الكمال، وزاد المقامات، وأوجد الطرائق الجديدة للضرب، ونوع في مجرى الأصابع - وسنفصله في موضعه - وأنشأ المذهب الحديث
l’ecole romantique
حتى أصبح له مبتدعا وزعيما، وكان له الفضل العظيم في نشر الموسيقى لا سيما بين القيان؛ إذ كان بيته يحوي دائما ثمانين قينة ممن يرسلهن مواليهن للتعليم.
إبراهيم الموصلي
هو إبراهيم بن ميمون، أو ابن ماهان بن بهمن، وهو من عائلة عريقة في النسب بفارس. وقد هرب جده من جور بعض عمال بني أمية فنزل بالكوفة، واسم أبيه الأصلي ماهان، ثم غيره بميمون.
ولد بالكوفة سنة 125 هجرية، ومات ببغداد سنة 188، ولما نشأ وأدرك صحب الفتيان واشتهى الغناء فطلبه، فغضب أخواله عليه، فهرب منهم إلى الموصل، فصحب جماعة من الصعاليك كانوا يصيبون الطريق ويصيبه معهم، ويجمعون ما يفيدونه فيقصفون ويشربون ويغنون، فتعلم منهم شيئا من الغناء وشدا، فكان أطيبهم وأحذقهم، فلما أحس بذلك من نفسه اشتهى الغناء وطلبه، وسافر إلى المواضع البعيدة فيه، فذهب إلى الري وتعلم بها أيضا الغناء العربي والفارسي، وتزوج امرأته دوشار، ثم شاهك - أم إسحاق ابنه وسائر أولاده. وقد تلقى الغناء أخيرا عن سياط، ثم طلبه محمد بن سليمان بن علي. ولما وصف أمام الخليفة المهدي أمر بإحضاره، وكان المهدي لا يشرب، فكان يأتيه في بعض الأحيان منتشيا، فأمر بضربه وحبسه، وحظر عليه أن يدخل على موسى وهارون ولديه، ثم بلغه أنه دخل عليهما وشرب معهما، فأمر بضربه ثلاثمائة سوط بعد أن جرد من ثيابه، ثم لف في جلد شاة بعد ذبحها مباشرة لتسكين ألم الضرب، ثم حبسه في قبر.
ولما ولي موسى الهادي طلب إبراهيم وأعطاه في يوم واحد 150000 دينار، وقال إبراهيم: لو عاش الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب والفضة.
وقد قدر إسحاق الموصلي أموال أبيه فوجدها 24000000 درهم، ما عدا أرزاقه الجارية، وهي 10000 درهم كل شهر خلاف غلات ضياعه والصلات الوافرة. وكان جوادا يذبح كل يوم ثلاث شياه؛ واحدة معلقة في القدور، وأخرى مسلوخة ومعلقة، وأخرى حية، فإذا أتاه قوم طعموا ما في القدور، فإذا فرغت قطعت الشاة المعلقة، ونصبت القدور، وذبحت الحية فعلقت وأتي بأخرى، فجعلت وهي حية في المطبخ. وكان في بيته ثمانون جارية من اللائي يرسلهن مواليهن إليه للتعليم خلاف قيانه الخاصة.
وقال إسحاق ابنه: ما سمعت أحسن غناء من أربعة: أبي، وحكم الوادي، وفليح بن أبي العوراء، وسياط. كانوا يصنعون فيحسنون، ويؤدون غناء غيرهم فيجيدون، وكان إبراهيم الموصلي - كرجل مفوه - إذا خطب أجزل، وإن كتب رسالة أحسن، وإن قال شعرا أجاد، ولم يكن فيهم مثله. وقال فيه ابن سيابة:
ما لإبراهيم في العل
م لهذا الشأن ثان
إنما عمر أبي إس
حاق زين للزمان
جنة الدنيا أبو إس
حاق في كل مكان
فإذا غنى أبو إس
حاق أجابته المثاني
منه يجنى ثمر الله
و وريحان الجنان
وحدث إسحاق فقال: صنع أبي تسعمائة صوت: منها دينارية، ومنها درهمية، ومنها فلسية، فأما ثلاثمائة منها، فإنه تقدم الناس جميعا فيها، وأما ثلاثمائة فشاركوه وشاركهم فيها، وأما الثلاثمائة الباقية فلعب وطرب. وقد أسقط ابنه الأخيرة.
إسحاق الموصلي
لقد ذكرنا نسبه في نسب أبيه، وموضعه من العلم، ومكانه من الأدب، ومحله من الرواية، وتقدمه في الشعر، ومنزلته في سائر المحاسن أشهر من أن يدل عليه فيها بوصف، وأما الغناء فكان أصغر علومه، وأدنى ما يوسم به، وإن كان الغالب عليه وعلى ما كان يحسنه؛ فإنه كان له في سائر أدواته نظراء وأكفاء، ولم يكن له في هذا نظير؛ فإنه لحق بمن مضى فيه، وسبق من بقي، وأوضح للناس جميعا طريقه، وسهل عليهم سبيله وأنارها، فهو إمام أهل صناعته جميعا ورأسهم ومعلمهم.
وكان المأمون يقول: لولا ما سبق على ألسنة الناس وشهر به عندهم من الغناء لوليته القضاء بحضرتي، فإنه أولى به وأعف وأصدق، وأكثر دينا وأمانة من هؤلاء القضاة. وهو الذي صحح أجناس الغناء وطرائقه، وميزه تمييزا لم يقدر عليه أحد قبله، ولا تعلق به أحد بعده، ولم يكن قديما مميزا على هذا النمط، إنما كان يقال: الثقيل، وثقيل الثقيل، والخفيف، وخفيف الخفيف. وهذا عمرو بن بانة، وهو من تلاميذه، يقول في كتابه الرمل الأول، والرمل الثاني، ثم لا يزيد في ذكر الأصابع على الوسطى والبنصر، ولا يعرف المجاري التي ذكرها إسحاق في كتابه مثل ما ميز الأجناس، فجعل الثقيل الأول أصنافا، فبدأ فيه بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، ثم تلاه بما كان فيه بالبنصر في مجراها، ثم بما كان بالسبابة في مجرى البنصر، ثم فعل هذا بما كان منه بالوسطى على هذه المرتبة، ثم جعل الثقيل الأول صنفين: الصنف الأول منهما الذي ذكرناه، والصنف الثاني القدر الأوسط من الثقيل الأول، وأجراه المجرى الذي تقدم من تمييز الأصابع والمجاري، وألحق جميع الطرائق والأجناس بذلك، وأجراها على هذا الترتيب.
تناظر المغنون يوما عند الواثق، فذكروا الضراب وحذقهم، فقدم إسحاق زلزلا على ملاحظ، ولملاحظ في ذلك الرئاسة على جميعهم، فقال له الواثق: هذا حيف وتعد منك، فقال إسحاق: يا أمير المؤمنين، اجمع بينهما وامتحنهما؛ فإن الأمر سينكشف لك فيهما، فأمر بهما فأحضرا، فقال إسحاق: إن للضراب أصواتا معروفة، أفأمتحنهما بشيء منها؟ قال: أجل، افعل! فسمى ثلاثة أصوات كان أولها:
علق قلبي ظبية السيب
فضربا عليه، فتقدم زلزل وقصر عنه ملاحظ، فعجب الواثق من كشفه عما ادعاه في مجلس واحد، فقال له ملاحظ: فما باله، يا أمير المؤمنين، يحيلك على الناس؟ ولم لا يضرب هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لم يكن أحد في زماني أضرب مني إلا أنكم أعفيتموني، فتفلت مني، وعلى أن معي بقية لا يتعلق بها أحد من هذه الطبقة، ثم قال: يا ملاحظ، شوش عودك وهاته! ثم فعل ذلك ملاحظ، ثم قال: يا أمير المؤمنين، هذا يخلط الأوتار تخليط متعنت، فهو لا يألو ما أفسدها، ثم أخذ العود فجسه لحظة حتى عرف مراجعه، فغنى، ثم قال: يا ملاحظ، غن أي صوت شئت، فغنى ملاحظ صوتا، وضرب عليه إسحاق بذلك العود الفاسد التسوية، فلم يخرجه عن لحنه في موضع واحد حتى استوفاه عن نقرة واحدة، ويده تصعد وتنحدر على الرساتين، فقال له الواثق: لا، والله ما رأيت مثلك ولا سمعت به، ولئن مت لتموتن هذه الصناعة معك، وأمر له بثلاثين ألف درهم.
وقال إسحاق الموصلي: دعاني المأمون وعنده إبراهيم بن المهدي، وفي مجلسه عشرون جارية، وقد أجلس عشرا عن يمينه، وعشرا عن يساره، معهن العيدان يضربن بها، فلما دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته، فقال المأمون: «يا إسحاق، أتسمع خطأ، فقلت: نعم والله يا أمير المؤمنين، فقال لإبراهيم: أتسمع خطأ؟ فقال: لا! فأعاد علي السؤال فقلت: بلى والله يا أمير المؤمنين، وإنه لفي الجانب الأيسر، فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال: لا والله ما في هذه الناحية خطأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، مر الجواري اللواتي على اليمين أن يمسكن.
فأمرهن فأمسكن، فقلت لإبراهيم: أتسمع خطأ؟ فتسمع ثم قال: «ما ها هنا خطأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، يمسكن وتضرب الثامنة، فأمسكن وضربت الثامنة، فعرف إبراهيم الخطأ، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ها هنا خطأ، فقال له المأمون: لا تمار إسحاق بعدها، فإن رجلا فهم الخطأ بين ثمانين وترا وعشرين حلقا لجدير أن لا تماريه، فقال له: صدقت يا أمير المؤمنين!
وقد مات إسحاق الموصلي في زمن المتوكل، ورثاه كثير من شعراء العصر.
ابن جامع
هو إسماعيل بن جامع بن إسماعيل، وكان صالحا متفقها في الدين أديبا محبا لاقتناء أنواع الكلاب. أخذ الغناء عن سياط، وقد غنى للهادي، وأعطى له مرة في جلسة ثلاثين ألف دينار، وكان جميل الصوت ملحنا مغنيا من الفحول. وكان يفضله إسحاق الموصلي على جميع المغنين في عصره؛ لحسن صوته، وتمكنه من فنه.
فليح بن أبي العوراء
من أهل مكة، وكان مولى لبني مخزوم، وهو أحد مغني الدولة العباسية، له محل كبير من صناعته وموضع جليل، وكان إسحاق الموصلي يقول: ما سمعت أحسن غناء من فليح وابن جامع. وهو أحد الثلاثة الذين اختاروا المائة الصوت للرشيد. وقال إسحاق الموصلي عنهما أيضا: كان أبي إبراهيم الموصلي لا يفضلهما في صناعة الغناء، بل يزيد عليهما فنونا من الأدب والرواية لا يداخلانه فيها.
حكم الوادي
هو الحكم بن ميمون، مولى الوليد بن عبد الملك، وأصله من الفرس. أخذ الغناء عن عمر الوادي، وكان يسميه الوليد «جامع لذتي»، وقال إسحاق الموصلي: أحذق من رأيت من المغنين أربعة: أبي، وحكم الوادي، وفليح بن أبي العوراء، وسياط. وقد غنى الوليد وعاش إلى زمن الرشيد، وغناه أيضا، ومات في خلافته.
بذل
إحدى مولدات المدينة، وربيت بالبصرة، وهي إحدى المحسنات المتقدمات الموصوفات بكثرة الرواية، ويقال: إنها كانت تغني ثلاثين ألف صوت، ولها كتاب في الأغاني منسوب الأصوات غير مجنس، يشتمل على اثني عشر ألف صوت، عملته لعلي بن هشام، وكانت مليحة الوجه، ظريفة، ضاربة، متقدمة، وابتاعها جعفر بن موسى الهادي، فأخذها منه محمد الأمين. وأخذت الغناء عن أبي سعيد مولى قائد ودحمان وفليح وابن جامع وإبراهيم الموصلي.
وكانت من أحسن الناس غناء في دهرها، وكانت أستاذة كل محسن ومحسنة، وكانت أروى خلق الله تعالى للغناء.
المائة صوت المختارة «الثلاثة أصوات المختارة»
كلف الرشيد إبراهيم الموصلي وإسماعيل بن جامع وفليح بن أبي العوراء أن يختاروا له من الغناء كله مائة صوت، ثم أمرهم أن يختاروا عشرة منها، ثم أمرهم أن يختاروا ثلاثة من العشرة ، وهذه الثلاثة أصوات منها لحن معبد في شعر أبي قطيفة، وهو من خفيف الثقيل الأول:
القصر فالنخل فالجماء بينهما
أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
ولحن ابن سريج في شعر عمر بن أبي ربيعة، ولحنه من الثقيل الثاني:
تشكي الكميت الجري لما جهدته
وبين لو يسطيع أن يتكلما
ولحن ابن محرز في شعر نصيب، وهو من الثقيل الثاني أيضا:
أهاج هواك المنزل المتقادم
نعم وبه ممن شجاك معالم
وقال إسحاق الموصلي: جرى حديث المائة صوت المختارة عند الخليفة الواثق بالله، فأمرني باختيار أصوات من الغناء القديم، فأخذت له من غناء كل عصر ما أجمع علماؤه على براعته وإحكام صنعته، ونسبته إلى من شدا به، ثم نظرت إلى ما أحدث الناس بعد مما شاهدناه في عصرنا وقبيل ذلك، فاجتنبت منه ما كان مشبها لما تقدم أو سالكا طريقه.
الموسيقى العربية في الأندلس
فتح العرب الأندلس والبرتغال، وتوغلوا في فرنسا إلى بواتييه، وكانت أوروبا تتخبط في غياهب الجهل، فما لبثوا أن أضاءت شموس معارفهم ومدنيتهم، فأزهرت في الأندلس الآداب والفلسفة والطب والزراعة والرياضيات، وفن العمارة والزخرفة والموسيقى، وعلم النبات والتاريخ والفلك وغيرها.
كانت حلقات دروس الفيلسوف الشهير ابن رشد يؤمها الألوف من الإفرنج، وكانوا وقتئذ يتهافتون على تعلم اللغة العربية ليستعينوا بها على فهم علوم العرب وفنونهم. ومن تصفح فهرست مكتبة «الإسكوريال» بإسبانيا وجد فيها عددا عظيما من المؤلفات العربية مترجمة إلى اللاتينية والإسبانيولية والعبرية وغيرها.
وما فتئت آثارهم الفنية التي بلغت المثل الأعلى من جمال الفن العربي ناطقة بفضلهم، وما زالت الحمراء ومسجد قرطبة وغيرهما من القصور والمساجد والمدارس تختال في بردها القشيب وزخارفها الباهرة.
سمت الموسيقى بدورها في الأندلس إلى أوج العلى كباقي الفنون الجميلة، فابتدعوا الموشحات الأندلسية التي انتقلت من الأندلس إلى المغرب، ثم سارت إلى مصر فالشام فالعراق والعرب، وصارت الأبناء ترويها عن الآباء، وتناقلها الخلف عن السلف كأنفس الذخائر والطرف حتى عاشت لأيامنا هذه في جميع بلاد الشرق.
اشتهر زرياب بقرطبة حتى سحب ذيل النسيان على من سبقه بالأندلس من المغنين المجيدين؛ مثل: علون وزرقون، والقيان الشهيرات؛ مثل: فضل وعلم وقلم، وأصبحت إشبيلية أعظم مركز موسيقي في الأندلس، كما أشار إلى ذلك ابن رشد وابن خلدون؛ إذ قال الأخير:
حينما كان يموت عالم في إشبيلية ويراد أن تباع كتبه بثمن عظيم ترسل إلى قرطبة، وإن مات موسيقي في عاصمة الأندلس كانوا يرسلون آلاته الموسيقية ومخطوطاته إلى إشبيلية التي نمت فيها الموسيقى، وولع بها أهلها أشد الولع.
زرياب
كان لإبراهيم الموصلي عبد أسود يقال له: زرياب، وكان مطبوعا على الغناء. علمه إبراهيم، وكان ربما حضر به مجلس الرشيد، فغنى فيه، ثم إنه انتقل إلى القيروان إلى بني الأغلب، فدخل على زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب فغناه بأبيات عنترة الفوارس حيث يقول:
فإن تك أمي غرابية
من ابناء حام بها عبتني
فإني لطيف ببيض الظبا
وسمر العوالي إذا جئتني
ولولا فرارك يوم الوغى
لقدتك في الحرب أو قدتني
فغضب زيادة الله، وأمر بصفع قفاه وإخراجه، وقال له: إن وجدتك في شيء من بلادي بعد ثلاثة أيام ضربت عنقك. فجاز البحر إلى الأندلس، وذهب إلى الأمير عبد الرحمن بن الحكم.
كان زرياب من فحول المغنين الملحنين الضاربين بالعود، وعند قدومه فتن به أهل الأندلس واحتفلوا به في كل بلد يمر به.
وكان المغنون من العرب يكررون اللحن لتلاميذهم حتى يحفظوه، ولكن زرياب كانت له طريقة عظيمة في التعليم؛ إذ كان يقسم التعليم إلى ثلاثة أقسام: الأول لتعليم الإيقاع «الوزن» في قراءة الشعر، وأن ينقر التلميذ الدف ليظهر له زمن الإيقاع، ويضبط الحركات، ثم يدرس في القسم الثاني الألحان في شكلها البسيط، والقسم الثالث لدراسة ترجيع الصوت، وحلية الغناء، وإظهار العواطف.
وكان يمتحن أصوات تلاميذه قبل البدء في تعليمهم، فيقعد الطالب على كرسي صغير، ويصيح بصوت عال: يا حجام! أو يغني قائلا: آه! ويرددها على جميع أنواع السلم الموسيقي.
كانت حياة زرياب كلها عمل ونشاط؛ إذ ترك عشرة آلاف صوت كانت ميراثا فنيا عظيما للأندلس.
الموسيقى الفارسية
أجمع مؤرخو العرب على أن الموسيقى الفارسية قديمة الرقي، وقد دلت على ذلك كتبهم القديمة مثل الشاهنامة؛ إذ ذكر الفردوسي فيها شيئا كثيرا عن أخبار الموسيقى في عهد ملوك الفرس وأكاسرتهم الأقدمين.
ولا جدال في أن المدنية تسير هي والموسيقى خطوة بخطوة، وتعد الفرس من الممالك الراقية ذات الحضارة القديمة.
ولقد بلغت الموسيقى شأوا عظيما في عهد الأكاسرة الساسانيين، وكان مؤسس إمبراطوريتهم أزدشير بن بابك معضدا للموسيقى، مجلا لشأن الموسيقيين، وكان ملوكهم يصطحبون الموسيقيين ليطربوهم في أوقات الصيد والقنص.
وكان بهرام الخامس الملقب ببهرام جور شديد الولع بالموسيقى، واستحضر موسيقيين من بلاد الروم والهند.
أخذت الموسيقى الفارسية تتطور في الارتقاء حتى تغلبت على الموسيقى العربية القديمة، وحلت محلها الآن في جميع الشرق، وقد ابتدأ دخولها في الآستانة سنة 1637 ميلادية.
ولما فتح السلطان مراد الرابع بغداد بعد حصار طويل سنة 1047 هجرية، الموافقة لسنة 1637 ميلادية، أمر بقتل الثلاثين ألفا من الفرس الذين كانوا يدافعون عن هذه المدينة، وأن تكون المذبحة أمام عينيه، وحينما ابتدأت المذبحة اخترق الصفوف «شاه كولي» - أكبر موسيقيي الفرس - وتقدم إلى السلطان مراد يغنيه آلام أهل بغداد ومصائبهم بصوت رنان شجي أسال الدمع من مآقي السلطان القاسي، فعفا عنهم، وأخذ هذا المغني العظيم وأربعة غيره من المجيدين إلى الآستانة، وهناك أدخلوا الموسيقى الفارسية في بلاد الترك، فكانوا زعماء النهضة التركية، ثم انتقلت شيئا فشيئا إلى الشام ومصر والمغرب والبلاد العربية.
فالأجدر بنا إذن أن نسمي الموسيقى الحاضرة بالشرقية؛ إذ هو الاسم الملائم لها الآن بعد هذا الانقلاب الذي سردنا تفصيله وأخباره.
الموسيقى في عهد المماليك
لا يوجد أمامنا الآن من يرشدنا إلى حالة الموسيقى في هذا العصر غير كتاب فيللوتو
Villoteau ، أحد أفراد البعثة التي استحضرها نابوليون في مصر لتحرير كتاب وصف مصر
La Description de L’Egypte .
يتركب كتابه من مجلدين؛ أحدهما: خاص بالآلات الموسيقية التي وجدها بمصر من وصف فني لأصولها وكيفية صناعتها، والثاني: للقواعد والأصول الموسيقية. ويحسن بنا أن نبحث عن هذا الرجل لنعلم إن كان أهلا لهذا العبء العظيم الذي عهد به إليه أم لا.
لقد بحثت في عدة دوائر معارف عامة وموسيقية، وكثير من كتب تاريخ الموسيقى القيمة، فلم أعثر على اسم هذا الرجل، حتى إنني لم أسمع في أية حفلة موسيقية قطعة واحدة تنسب إليه، فيستنتج من ذلك أنه كان من الموسيقيين الخاملين، أو مدرسا بسيطا في مدرسة صغيرة.
لم يكن عند هذا الرجل أدنى فكرة عن تاريخ الموسيقى، ولا عن الترتيب والنظام في العمل، ولا في آداب الكتابة. إننا لا ننكر أن هذا العصر كان مظلما يسود فيه الجهل والتأخر، ولكن لا يخلو الأمر من وجود بعض أفراد قلائل في هذا العهد لهم نصيب من الفضل.
لم يذكر لنا هذا الكاتب شيئا عن حالة البلاد الموسيقية في هذا العصر كمشاهير الملحنين والمغنين والعازفين، ولم يذكر لنا اسما واحدا من هذه الطائفة.
رأينا أنه نفر من الموسيقى الشرقية بمصر، وجعل يشنع عليها بكل وصف قبيح، واعترف بأنه لم يستطع بعد طول إقامته في هذه البلاد أن تميز أذنه أرباع الأصوات التي ما فتئت أمامه كطلاسم، تشتت منها فكره، كما أنه خلط كثيرا في القواعد التي شرحها، وانتقده الإفرنج قبل المصريين (انظر الجزء الثاني من تاريخ الموسيقى العام، للمسيو فيتيس، صحيفة 28، في الحاشية بأسفل الصحيفة).
وقد اقتطفت دورا من الأدوار التي جمعها في كتابه ليطلع عليه القراء، وليستدلوا منه على انحطاط اللغة العربية في ذاك العصر، وفساد الأخلاق، والاستهتار بالفجور:
دور راست (ضربه مصمودي)
يا لابسين الشيشيكلي
1
ومحزمين بالكشميري
حبيت جميل بنهود رمان
مثل الجميل ما رأت عيني •••
يا بيض ويا لون الياسمين
يا للي على الصب لاحظ
وحياة عيونك والوجنات
أنا أسير اللواحظ •••
الخمر والورد الأحمر
بيغزلوا في خدودك
ناديت من عظم وجدي
يا شبكتي من عيونك •••
قال لي غزالي أديني جيت
وافعل كما تختار فيه
اركبك صدر رمان
وتحل دكة الفيه
الموسيقى الشرقية في تركيا
لا ريب أن تركيا الآن هي كعبة الموسيقى الشرقية، ومنها نهلت البلاد الشرقية - حسب اجتهادها - المقدار الذي تسيغه من الموسيقى.
أزهرت الموسيقى الشرقية في تركيا، واقتعدت مقاما رفيعا تغبط عليه، وظهر فيها كثير من عظماء الفن العاملين.
وقد ظهر في هذا العصر نابغة يفتخر به قومه، بل الشرق أجمع؛ إذ خدم الموسيقى الشرقية خدمة قصر عنها معاصروه ومن سبقه من جميع رجال الفن، ألا وهو رءوف بك يكتا، رئيس ديوان الباب العالي ومؤلف رسالة الموسيقى التركية بدائرة معارف لافنياك - وهي تشتمل على 220 صحيفة في أكبر حجم، ولم يترك كبيرة ولا صغيرة، ولا شاردة ولا واردة إلا أحصاها في هذا الكنز الباهر - زد على ذلك نظامه الراقي، وترتيبه البديع بقلم فرنسي لا يقل بلاغة عما كتبه الفرنسيون بجانبه عن موسيقات البلاد الأخرى.
وأعظم من ذلك أنه حل كل معضلة في الفن، وأوضح المقاييس الرياضية أيما إيضاح. وقصارى القول: إن كل من له إلمام بسيط بفن الموسيقى واطلع على رسالته لا يسعه إلا أن يقول: «ليس في الإمكان أبدع مما كان.» ومن أعماله المجيدة أنه دافع عن الموسيقى الشرقية دفاعا مجيدا، وهو من الحزب القائل برفع الحواجز والسدود بين الموسيقى الشرقية والغربية حتى يتزاوجا، وتخرج الموسيقى الشرقية من خدورها بعد رقيها؛ لتقتعد مكانا رفيعا لها في البلاد الغربية.
ابتدأ هذا النابغة يتلقى دروس الغناء على المرحوم زكائي دده، الملحن الشهير، ثم أخذ النظريات والأصول الموسيقية على أكبر حجة في عصره؛ وهو الشيخ عطاء الله أفندي، رئيس المولوية بيرا، وكان بشهادة رءوف بك متبحرا في العلوم الأخرى، ويحسن الفرنسية والإيطالية، ويضرب بالعود والقانون بأسلوب ساحر. ولم تمض سنة على رءوف بك حتى أخذ جميع ما عند أستاذه من الفن، ثم انكب على الكتب الموسيقية القديمة، ودرس أغلب ما فيها؛ مثل: كتاب الموسيقي الكبير للفارابي، وكتابي الشرفية والأدوار لصفي الدين عبد المؤمن البغدادي، وكتاب الفتحية للاذقي، والقسم الموسيقي من كتاب الشفاء لابن سينا، وكتاب درة التاج للقطب الشيرازي وغيرها.
ثم انتقل إلى الموسيقى الغربية، فدرسها دراسة متينة. ويظهر لمن تصفح رسالته أنه اطلع على أهم كتب تاريخ الموسيقى الفرنسية والألمانية والمجلات المهمة. ولقد استشهد في رسالته بنحو أكثر من عشرين كتابا قيما .
ابتدأ يحرر القسم الموسيقي في جريدة أقدام، فنشر أول بحث له في 29 ديسمبر سنة 1912، وكان وقتئذ في الخامسة والعشرين من عمره، فشهر عليه حساده حربا قلمية عوانا، فأسكتهم جميعا واعترفوا له بالفضل.
ظهر في الآستانة عدد عظيم من كبار العلماء في الموسيقى، وأشهرهم في العصر الحاضر عطاء الله أفندي، رئيس مولوية بيرا الذي سبق ذكره، وقد توفي منذ بضع سنين، وجلال الدين أفندي، رئيس مولوية يني كي، ومن الملحنين كثير؛ مثل: عثمان بك، وعاصم بك، وطاطيوس، وسليمان باشا، ونجيب باشا، ودلال زاده، وحاجي عارف بك، وخطيب زاده، وزكائي دده، ورفعت بك، وسعد الدين بك، وخليل أفندي، وناظم بك، وسندا حافظ، وصبحي زهدي بك، وحليم أغا، وسعيد بك نوح وغيرهم، وقد توفي البعض منهم، ومن مشاهير الضراب: جميل بك الطنبوري - وقد توفي منذ سنتين تقريبا - وكان يضرب على جميع الآلات، ويعد أعظم ضارب للطنبور، ونشأت بك، وهو أمهر من ضرب بالعود، واخترع عودا صغير الحجم، قوي الصوت، يعادل البيانو تقريبا في صوته، وسامي بك، وحاجي عارف بك القانوني والملحن، وإحسان بك، وأغوبوس أفندي وغيرهم. وقد مات البعض منهم أيضا.
ومن مشاهير المغنين ذوي الأصوات الرخيمة والصناعة العظيمة: نصيب هانم. وقد وهبت صوتا نادر المثال في جماله وقوته ورنينه، وفنا متينا، وحافظ عاشر أفندي، وحافظ سامي أفندي، وحايم أفندي وغيرهم.
الموسيقى من عهد محمد علي باشا إلى الآن
ابتدأت الموسيقى ترتقي في عهد محمد علي باشا، واشتهر بها في عصره محمد أفندي المقدم المغني، أستاذ عبده الحامولي، وساكنة المغنية، وكانت ذات صوت رخيم فتان، وقد أنعم عليها محمد علي باشا بنيشان، وعاشت إلى عهد إسماعيل باشا.
وقد اشتهر من الموقعين في ذلك العهد محمد أفندي القباني، كبير الملحنين عند محمد علي باشا، وخطاب أفندي القانوني، ومصطفى أفندي العقاد القانوني، وهو والد محمد أفندي العقاد القانوني المعروف والموجود الآن، وكان حافظا لكثير من الموشحات والأدوار العظيمة.
ومن مشاهير حفاظ الموشحات والأدوار القديمة: الشيخ محمد الشبشيري، شهير زمانه بطنتدا «طنطا»، الذي أخذ عنه المرحوم عبده أفندي الحامولي كثيرا من طرق الإبداع والإتقان والتلاعب بالنغمات، وأحمد أفندي الياسرجي، مطرب الإسكندرية الشهير، والأستاذ الأكبر للمرحوم الشيخ سلامة حجازي، والمرحوم الشيخ محمد الشلشلموني بالقاهرة، وكان حجة الفن ومرجع أهله. وهؤلاء هم رجال الطبقة القديمة، وهي الطبقة الأولى.
أما الطبقة الثانية، فتتكون من محمد أفندي الخضراوي، أستاذ المرحوم محمد أفندي عثمان، والشيخ محمد عبد الرحيم، الشهير بالمسلوب، الموجود الآن على قيد الحياة، وقد لحن عدة أدوار وطرائق للذكر معروفة طار بها ذكره، والشيخ محمد المغربي، القاطن بجهة سيدنا الحسين، ومبدع تلحين طرق المولد النبوي الشريف على ما هو مألوف الآن بعد المرحوم الشيخ حسن الآلاتي أول مبتكر لها، والشيخ عمر، القاطن بجهة المغربلين بمصر القاهرة، وحافظ الموشحات القديمة والقارئ والمنشد الشهير.
ومن مآثر المغفور له إسماعيل باشا على الموسيقى أنه أحضر من الآستانة جوقا تركيا «تختا»، تلقى عنه مشاهير الفن بعض التلاحين والبشروات «البشارف»، ومن هؤلاء: المرحوم عبده أفندي الحامولي، ومحمد أفندي العقاد، والمرحوم أحمد أفندي الليثي، والمرحوم إبراهيم أفندي سهلون، وأمين أفندي بزري، الموجود الآن.
السيد محمد شهاب الدين
كان عالما فاضلا وشاعرا للخديويين من محمد علي إلى سعيد باشا. وقد توفي في سنة 1275 أو 1276 هجرية، وكان أشهر أهل عصره في الموسيقى، وهو الذي ألف السفينة المشهورة باسمه، وكان شاعرا أديبا لطيف المعشر، وله ديوان طبع سنة 1277 هجرية، يشتمل على 380 صحيفة، وقد جمع في سفينته عددا عظيما من الموشحات العربية، فكان أعظم عامل لترقية الموسيقى في عصره.
عبده أفندي الحامولي
لم تر مصر موسيقارا بارعا، وفنانا مبدعا، وملحنا نابغة وهب من حسن الصوت وسلامة الذوق والتفنن في الصناعة مثل عبده أفندي الحامولي زعيم النهضة العصرية الموسيقية. أخذ الموسيقى عن محمد أفندي المقدم الذي سبق ذكره، وقد غنى في مصر، وطبقت شهرته الآفاق في عصر إسماعيل باشا وتوفيق باشا وعباس باشا، ودعاه السلطان عبد الحميد عدة مرات ليغني في حضرته، وله الفضل في إدخال بعض المقامات التي كانت في هذا الوقت غير معروفة في مصر، فلحن بعض الأدوار من مقام الحجاز كار «كمليك الحسن في دولة جماله»، و«الله يصون دولة حسنك»، و«كنت فين والحب فين»، وأبدع في القصائد والأدوار من مقام العجم، ومن ذلك: «أراك عصي الدمع شيمتك الصبر»، و«جرحني لحظك» في دور: أد ما أحبك زعلان منك «الصبا»، وكان طويل الباع في إلقاء مقامي النهاوند والنواثر، وله أدوار كثيرة في غاية الجودة.
وقد تزوج من المغنية الشهيرة ألمز التي وهبت صوتا شجيا رنانا نادر المثال، وسحبت على من سبقها ومن عاصرها من المغنيات ذيل النسيان.
محمد أفندي عثمان
هو الزعيم الثاني للنهضة العصرية، والملحن المبدع، والمغني المطرب، وقد تلقى الموشحات على الشيخ الشلشلموني، والغناء عن مصطفى أفندي الموشي، تلميذ الشبشري، وله من الموشحات ثلاث؛ وهي: «اسقني الراح» الحجاز كار المربع، و«يا غزالا زان عينيه الكحل» الحجاز كار النوخت في «يا مطرب الحان» الحجاز كار السماعي، والثالث - وهو أشهر موشح سمع منه - «ملا الكاسات وسقاني» الرصد السماعي، حتى إنه لعذوبته وضع على قده المرحوم الشيخ سلامة حجازي «صفا الأوقات». وأما أدواره فكثيرة جدا، وكلها تدل على فضل عظيم، وذوق سليم، وفن متين.
الشيخ يوسف المنيلاوي
ومن مشاهير المغنين وكبارهم: المرحوم الشيخ يوسف المنيلاوي، وكان جميل الصوت قويه، منشدا مطربا، ومغنيا عظيما، ولم يشتغل بالتلحين إلا في آخر أيامه.
ومنهم محمد أفندي سالم، وقد بلغ الآن المائة من عمره، وما برح حافظا لبعض قواه، وكان يمتاز برخامة صوته، ورقة غنائه، وعواطفه المتأججة من كل حرف يلقيه على أحسن أسلوب.
والمرحوم عبد الحي أفندي حلمي، ومحمد أفندي السبع، وإبراهيم أفندي شفيق، وزكي أفندي مراد، وصالح أفندي عبد الحي، وعبد اللطيف أفندي البنا. وهم من مشاهير المغنين.
وأما مشاهير العازفين من الطبقة الأولى فهم: أمين أفندي بوزري، وهو سلطان الناي، ولا مثيل له في الشرق في اقتداره ومهارته وفنه وعواطفه الملتهبة، ومحمد أفندي العقاد، وهو أعظم من ضرب بالقانون، وهو وبزري أفندي الذخيرة الباقية لنا من أساطين العازفين. وقد توفي اثنان من زملائهم كانوا من صفهم في جودة الصناعة؛ وهما: أحمد أفندي الليثي، العواد الشهير، وإبراهيم أفندي سهلون، الكمنجاتي المبدع. وقد سد هذين الفراغين محمد أفندي القصبحي في العود، وفاق الليثي في المهارة والتفنن، وله - فضلا عن ذلك - بضعة أدوار لحنها بنفسه، وسامي أفندي الشوا، الذي خلف سهلون أفندي، وهو بارع مشج يعرف النوتة جيدا ويعلم بها، وعبد الحميد أفندي القضابي، وهو ثاني العازفين بالقانون بعد محمد أفندي العقاد، وغيرهم ممن لا يسع المقام ذكرهم.
ومن المولعين بالفن والذين يفتخر بهم: مصطفى بك رضا، رئيس نادي الموسيقى الشرقي، وقد نبغ في القانون، وصفر أفندي علي، وقد مهر في العود، وله ذوق عظيم في التلحين، وله مارشات ومحاورات وبشارف ومونولوجات وأدوار وغيرها، وكامل أفندي رشدي، وهو فاتن في ضرب العود، ومصطفى أفندي ممتاز، وقد برع في الكمنجة، وأحمد أفندي فؤاد فريدون، وهو أستاذ في الناي، وعزيز أفندي جريس، وهو فائق في العود، ومن المتهمين بأمر التدريس في النادي، وغيرهم.
الملحنون وعلماء الفن
محمد أفندي كامل الخلعي
هو أعظم حجة في علم الموسيقى، وأكبر نابغة في التلحين، ولع بالموسيقى منذ نعومة أظفاره، وكفاه فخرا أنه وضع - وهو غلام - كتاب «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، وذلك منذ ثلاثين سنة، وقد حفظ الموشحات قديمها وحديثها، وأخذ الأوزان عن المرحوم الشيخ أبي خليل القباني، والمرحوم الشيخ عثمان الموصلي، وتلقى عن أساتذة الأتراك الأوزان التركية الكبيرة الموضوع عليها البستات التركية والبشروات، ونقل أغلبها على الطريقة المصرية، وأهم أساتذته المرحوم الشيخ سلامة حجازي، الذي تلقى عليه أسرار التلحين المسرحي.
لحن هذا النابغة ما ينيف على الأربعمائة موشح، منها مائتان من المختارات تداولها عشاق الموسيقى.
ثم تخطفته المسارح، فاشتغل بالموسيقى المسرحية، ورقاها رقيا ظاهرا محسوسا، ولحن أكثر من خمس وعشرين أوبرا وأوبريت؛ مثل: كارمن - كرمنينا - تاييس - اللؤلؤة - طيف الخيال - كليوباترا - السلطان قلاوون، وغيرها. ومن أهم مؤلفاته كتاب «الموسيقى الشرقي»، وهو أوفى وأعظم كتاب ظهر في مصر في علم الموسيقى.
المرحوم الشيخ سيد درويش
ظهر من عهد قريب هذا الشاب فجأة، وطلع بدرا كاملا ، ولم ينشأ هلالا كغيره، فبهر الناس بمتانة تلحينه، وسلامة ذوقه، وقد طرق جميع الألحان، ولحن فيها كثيرا من موشحات وأدوار وطقاطيق، ونبغ في الموسيقى المسرحية المضحكة، ولحن فيها كثيرا من الأوبريت؛ منها: شهرازاد - هدى - إش - العشرة الطيبة - رن - قولوله - راحت عليك - كلها يومين - فشر، وغير ذلك، وقد ذوى غصنه الرطيب قبل أن يتم الحلقة الرابعة من حياته، فبكاه الفن والمصريون، وفقدت به مصر ركنا عظيما من أركان الموسيقى.
الشيخ حسن الملوك
هو أستاذ عظيم في الفن وملحن قدير، درس الموسيقى العربية القديمة، وعرف أسرارها، ومهر في الحديثة، وألف كثيرا من الموشحات والأدوار والبشارف، وانقطع للتعليم بالنوتة، وفضلا عن فنه الغزير؛ فإنه أديب ينظم بنفسه أغلب موشحاته وأدواره.
منصور أفندي عوض
حجة في الفن وعالم متين، يجيد النوتة الإفرنجية، وله بعض رسائل في الأنغام والسلم الموسيقي والضروب. وقد لحن كثيرا من المارشات والأدوار والأناشيد، وله مدرسة موسيقية يديرها مع سامي أفندي الكمنجاتي الشهير، وفضلا عن ذلك؛ فإنه من أمهر المتفننين في ضرب العود.
إبراهيم أفندي القباني
كان مشتغلا بالغناء والتلحين، ثم انقطع للتلحين والتدريس، ويعد من أمهر الضاربين بالعود، ولا يجاريه أحد في النوع الشديد، وهو آية في التلحين الفني المتين، وله كثير من الأدوار الكبيرة المتينة التي لا يستطيع أن يغنيها إلا الفحول من المغنين، وله ذوق سليم، وابتكارات شائقة.
داود أفندي حسني
هو عمدة في رواية ما سلف من ألحان عبده ومحمد أفندي عثمان، وقد تأثر منهما كثيرا، واجتهد في تقليد محمد أفندي عثمان، فأحسن التقليد إلى الغاية. وهو من أساطين الملحنين الذين يشار إليهم بالبنان، وله من الأدوار الشائقة والطقاطيق شيء كثير، وقد ابتدأ أخيرا يلحن للمسارح، فلحن روايتي «شمشون ودليلة» و«معروف الإسكافي»، فجاءتا آية في الفن.
حسن أفندي أنور
هو وكيل النادي الفني وملحن قدير، لا سيما في ضرب الموشحات، فقد أوتي فيها ذوقا سليما نادرا، وله عدد عظيم منها، وبعض مونولوجات وقطع تمثيلية صغيرة، وأدوار وطقاطيق شائقة.
الموسيقى المسرحية
يعد المرحومان الشيخ سلامة حجازي والشيخ أبو خليل القباني زعيمي النهضة الموسيقية المسرحية، وهما أول من فكر فيها وأحدثها مع المرحومين سليم نقاش أفندي وأديب بك إسحاق. ولا ننسى خدمة المرحوم الشيخ نجيب الحداد في تأليف أغلب روايات الشيخ سلامة حجازي. وأغلب ممثلي المسارح من تلامذة الشيخ سلامة والشيخ أبي خليل القباني.
الشيخ سلامة حجازي
لم ير الشرق أجمعه مثل هذا النابغة الذي جمع بين حسن الصوت وقوته ورنينه، والمقدرة الفنية في الغناء، والذوق الرفيع في التلحين، وقد اجتمعت كل هذه القوى العظيمة في رأس واحد، ففتنت الشرق الناطق بالضاد.
لقد فقدت مصر هذا العندليب الصادح، وهيهات أن يجود الدهر بمثله! وقد ترك لنا كنزا عظيما من ألحانه التي خلدها لنا الفونوغراف، وكل رواياته من تلحينه بمفرده. ومن مزاياه: المحافظة على حسن الإلقاء في التلحين، والتعبير عن العواطف في الغناء.
كيف ترقى الموسيقى الشرقية؟
المحافظون على القديم وجمودهم
مضى على الموسيقى الشرقية قرون عديدة، والمشتغلون بها جامدون لا يريدون إدخال أي إصلاح فيها، تقدم الزمن وهم متأخرون ثابتون في أماكنهم لا يسيرون معه، وما دروا أن سنة الكون الرقي، وأن الإزار والرداء اللذين كانا يعدهما أمراء العرب أفخر اللباس أصبحا لا يلبسهما إلا خدم الحمامات.
لم يكتفوا بجمودهم، بل ما فتئوا يحاربون كل مرشد إلى الإصلاح الذي يعدونه في عرفهم ضلالا وإثما مبينا.
تحريمهم ما أحله العرب
شرحنا فيما سبق من أخبار الموسيقيين من العرب اقتباسهم من اليونانية والفارسية؛ مثل: سائب خاثر، وابن مسجح، وابن محرز، وكيف كانوا يسافرون إلى فارس والشام لاقتباس الأنغام الجميلة من الموسيقى اليونانية والفارسية. وهذا برهان ناصع على أن العرب لم يكن عندهم شيء من الجمود والمحافظة على القديم بدون تغيير ولا إصلاح، فما بال الموسيقيين في هذا العصر يحرمون ما أحله العرب، ويعدون كل مناد للإصلاح كأنه ارتكب أمرا إدا؟!
كيف ينشأ الموسيقي عند الغربيين؟
إذا ألقينا نظرة في تاريخ الموسيقيين الغربيين وجدناهم كلهم علماء وفلاسفة وشعراء، فضلا عن تبحرهم في فن الموسيقى، واطلاعهم على أغلب المؤلفات الموسيقية عند غيرهم من أمم الغرب الراقية، فتراهم يعبرون عن عواطفهم ووجدانهم كالشعراء، ويصورون الطبيعة كالمصورين، ويحللون النفوس كالبسيكولوجيين، ويستنبطون جمال الفنون والطبيعة كعلماء الجمال. ولولا فضلهم هذا لما تركوا لنا هذه المعجزات الموسيقية.
ولا جدال في أن المصورين والموسيقيين والشعراء كلهم شعراء، غير أن طريقة التعبير تختلف؛ فالمصور يعبر بريشته وألوانه، والموسيقى بأنغامه، والشاعر بألفاظه.
نجد نفس الفني متصلة به؛ إذ لا يوجد بينهما غير حجاب شفاف، فتراه يشعر بوجدانه وعواطفه، فيردد عين النغمة التي تصدح بها نفسه، ويقرأ ما خفي من دقائق الفن: كالانسجام، وقوة التعبير، والإتقان، والجمال، والرشاقة، والعواطف، والإبداع، والابتكار، وشخصية المبدع التي امتاز بها في عمله، وبلاغة الوصف، كما أنه يسبغ كل هذه الصفات على ما يجود به خياله أو بنانه، فإن خلت أعمال الفنيين من هذه الصفات؛ فخليق بنا أن نعتبر المصور صباغا، والموسيقي حدادا، والشاعر وزانا.
تلك هي حال الفنيين الغربيين، فهل رأيت أيها القارئ بيننا من عنده معشار ما عندهم؟
الموسيقى عندنا معتبرة كصناعة من الصناعات لا كفن؛ فلذلك ترى أغلب الموسيقيين عندنا غير متعلمين، والبعض منهم أمي لا يعرف هجاء اسمه، فكيف ينتظر من هؤلاء أن ينهضوا بالموسيقى، أو يدخلوا فيها إصلاحا يرقيها، وقد أضاعوا عمرهم في التشاتم في الجرائد لأجل الربع والثمن في الأصوات، كما أضاع المرحوم الشيخ الشنقيطي عمره في القول: بأن عمر مصروف، مع أنه كان أكبر حجة في اللغة، فمات ودفن معه علمه في صدره، ولم يترك مؤلفا ينفع الناس، أو يخلد له ذكرا؟
مثال يلائمنا من نهضة الروس الحديثة
جادت علينا الروسيا في أواسط القرن التاسع عشر بخمسة نوابغ أسعدوا حظ الموسيقى الروسية باتحادهم وتضامنهم في النهضة الروسية، وكانوا في مبدأ أمرهم شبانا ضعافا يسخر منهم ويهزأ بهم، فأغنتهم آمالهم الثابتة، وفضائلهم الراجحة، وعقيدتهم الراسخة، وقد وجهوا النفوس إلى طريق الكمال، وأتموا المعجزة الباهرة، ونهضوا بالموسيقى نهضة لم تكن تنتظر من غيرهم.
هؤلاء النوابغ هم بالاكيريف
Balakirew ، وسيزار كوي
César Cui ، وموسورجسكي
Moussorgski ، وبورودين
Borodine ، ورمسكي كورساكوف
Rimsky Korsakoff .
وكان «بورودين» طبيبا يدرس الكيمياء في مدرسة الطب المخصصة للنساء، و«موسورجسكي» ضابطا في الجيش، و«رمسكي كورساكوف» ضابطا في البحرية، و«سيزار كوي» قائدا ومدرسا للتحصينات بمدرسة بتروجراد الحربية، وقد درس بالاكيريف العلوم الطبيعية.
درس هؤلاء الأرموني والكونترپوان وفن توزيع الألحان على الآلات الموسيقية، وكانوا يعجبون بڤاجنر
Wagner ، ولكنهم اتفقوا على أن لا يقلدوه، وقد أخذوا من الألمان فن توزيع الألحان على الآلات ليستعملوه في الموسيقى الروسية لا الألمانية.
ساد بينهم الإخاء والإخلاص، ولم يتسرب إليهم الحسد والتنافس والغرور، وقد مات بورودين قبل أن يتم أوبرا «الأمير إيجور»، فأتمها رمسكي كورساكوف.
تعلم هؤلاء الموسيقى على أنفسهم بدون مدرسة؛ إذ كانوا يعتقدون أن المدرسة تحول دون حرية الخيال، فيصبح الإنسان متأثرا منها أو مستعبدا لها.
ولقد شهر «تشيكوفسكي» و«روبنشتاين» على هؤلاء الخمسة حربا قلمية عوانا، فلم تثبط لهم همة، ولم تثن لهم عزما، ولما ظهر فضلهم وانتشر بين الخافقين لم يستطع أعداؤهم بالأمس أن يجحدوه، فقال تشيكوفسكي حينما ظهرت أوبرا: خطيبة الثلج
Sniegourotehka : لقد قرأت خطيبة الثلج التي لحنها رمسكي كورساكوف، فأعجبت بنبوغه، وإني لأخجل حينما أعترف بأني حسدته على هذا العمل المجيد.
تعاهدوا على اجتناب العيوب التي وقع فيها من أتى قبلهم، وأن لا ينسجوا موسيقاهم إلا على الألحان وأنواع الرقص الروسية. وهذه المبادئ هي سر تقدم موسيقاهم التي أدهشت العالم برقتها وابتكاراتها ونغماتها العجيبة.
وهذه النهضة المباركة تلائمنا معشر الشرقيين، فلو قام منا بعض الشبان ممن لهم استعداد في الموسيقى، ووهبوا خيالا شعريا، وذهبوا إلى معهد علمي موسيقي في أوروبا «كونسرفاتوار»، واشتغلوا في أوقات فراغهم بالتعمق في الآداب، وآداب الفنون الجميلة، وعلم النفس «البسيكولوجيا»، وضارعوا الموسيقيين الأوروبيين في الفضل، فإني أضمن لهم أن يوفقوا بين الموسيقى الشرقية والغربية كما فعل الروس مع المحافظة على الروح الشرقية. وسنشرح ذلك في موضعه.
اعتراف العلماء بسيادة الموسيقى الروسية الحديثة
لقد اتفق كثير من العلماء على أن الخمسة الروسيين الذين ذكرناهم كانوا بمجموع أعمالهم أفضل من جميع المعاصرين لهم في البلاد الأخرى من أوروبا، وإني أسرد - مصداقا لذلك - قول أعظم حجة بين علماء الموسيقى، ألا وهو المسيو كومباريو
J. Combarieu ؛ إذ قال - في الجزء الثالث، الذي ظهر سنة 1919، من كتابه «تاريخ الموسيقى العام»، صحيفة 589 من الطبعة الأولى، عن السانفوني المعروفة «بشهرزاد»، وهي صفوة مؤلفات رمسكي كورساكوف، أحد الخمسة، وأعظم نابغة فيهم وفي الروسيا:
توجد في شهرزاد قوة إبداع تتجدد دون انقطاع، ولون نادر متنوع مندمج فيما حوله، ومتحد بأوزان تكون دائما على غير انتظار، وما هي إلا إسراف في الخيال رقيق وقوي في آن واحد. وإن أعظم الموسيقيين في الوصف والتعبير من الفرنسيين والألمان ليظهرون شاحبين قصيري الخيال والنفحات بجانب رمسكي كورساكوف.
تأثير الموسيقى الشرقية في الروسيا والمجر وممالك البلقان
فتح الأتراك جنوب الروسيا حتى اقتربوا من موسكو في عهد كاترينا الثانية، ولولا خداعها وفتنتها للقائد التركي لاستمر في التوغل، وقد احتلوا المجر نحو مائتي سنة، وكانت الموسيقى متقدمة وقتئذ في تركيا، ومتأخرة في الروسيا والمجر وممالك البلقان، فأثرت فيها، واستمرت إلى وقتنا هذا حافظة لهذا التأثير.
وأظن أن كثيرا من أهل الإسكندرية والمصطافين فيها من أهل المدن الأخرى سمعوا الأوركستر الروماني وألحانه المشابهة لألحاننا، ولا سيما التقسيم الذي يقسمونه كتقسيمنا الشرقي. والذي يهمنا الآن هو النظر في الموسيقى الروسية؛ لأنها أعظم وأرقى مثال نجتذبه توصلا للوسائل الناجعة في النهوض بموسيقانا الشرقية.
إنني أنصح للمولعين بالموسيقى أن يراقبوا الكونسيرات الشهيرة حينما توقع شيئا من مؤلفات رمسكي كورساكوف وبورودين؛ فإن هذين النابغتين من أعظم الروسيين الذين حافظوا على الأنغام الروسية؛ ليتحقق المصريون من جمال أسلوبهما، وليسعوا في إدخال الأرموني والكونترپوان على موسيقاهم دون أن يخرجوها من طورها الشرقي الجميل. وإني أذكر بعض القطع المهمة من مؤلفات هذين النابغتين، لا سيما ما طبع منها في أسطوانات الجراموفون إذا تعسر على البعض سماعها في أوركستر:
Rimsky Korsakoff
Le Coq d’or
Rimsky Korsakoff
Schéhérzade
Rimsky Korsakoff
Dubinuschka
Rimsky Korsakoff
La Nuit de Noel
Rimsky Korsakoff
Dance of Snow Maiden “Smegourotchka”
Borodine
centrale
الوسائل المحتمة لترقية موسيقانا
أهم الوسائل لترقية موسيقانا هو ترك التعصب، مع التساهل قليلا في رفع الحواجز بين الموسيقى الشرقية والغربية؛ حتى نوفق بينهما، وهذا ليس بالعسير إذا درسنا السولفيج والأرموني والكونترپوان وفن توزيع الألحان على الآلات الموسيقية والموسيقى الشرقية . وأهم العقبات هو ربع الصوت والمقامات التي لا تنطوي تحت الجام ماجور والجام مينور، وهذه يمكن الاستغناء عنها والاستعاضة بغيرها من المقامات العديدة حينما نريد. وأن ينشأ الموسيقي الشرقي نشأة تماثل الغربي من حيث الفضل والرقي، وأن نستعمل جميع الآلات الإفرنجية وندرسها، وأن نستعمل كل أصوات الرجال والنساء المستعملة عند الإفرنج، وأن ندرس الآلات الفرنجية كلها لنأخذ ما يلزمنا لتكوين الأوركستر الحديث. والموسيقى المسرحية هي التي تضطرنا إلى جميع هذه المشروعات؛ لنستطيع أن ننشئ الأوبرا العربية بكل معنى الكلمة، وأن ندرس الموسيقى السانفونية التي هي معدومة عندنا بالمرة.
ويمكننا الاحتفاظ بالآلات الشرقية للبشارف والسماعيات والموشحات والأدوار والطقاطيق وغيرها.
إهمال الحكومة والأمة للموسيقى
جميع الأمم الراقية، كبيرها وصغيرها، تعظم الموسيقى وترفع من شأنها؛ إذ نرى أن حكوماتها قد أنشأت لها الكونسرفاتوارات والمعاهد الموسيقية، ولم يكتف الأهالي بذلك، بل أسسوا كثيرا غيرها، وكل ذلك راجع إلى تقدير هذا الفن.
أتاح الله لنا سمو الأمير يوسف كمال، فأنشأ لنا مدرسة الفنون الجميلة، وأرسل عددا من الطلبة إلى أوروبا، فنالوا حظا عظيما في التصوير والنحت، وأصبح لهذين الفنين عندنا بعض الشأن، وأقيمت لهما المعارض، وكثر المعارضون شيئا فشيئا. فجزى الله الأمير خيرا، وزاده عزا وفخرا.
فهلا جاراه غيره من الأمراء والأغنياء فوقف شيئا من ماله، وعقد اكتتابا لإنشاء كونسرفاتوار حتى يحيي هذا الفن! أصبحت الموسيقى الشرقية كحسناء تتعثر في أثوابها الخلقة حتى نفرت منها الأمم الغربية، ولم يسمحوا لها أن تنتقل من مكانها، بل حوصرت في بلادها كالوباء.
حاجة البلاد إلى كونسرفاتوار
يوجد في بلادنا بعض من الشبان يتعلمون النوتة مع العزف بآلة مثل الكمنجة أو البيانو على معلمين من الإفرنج أو الوطنيين، ولكن ذلك لا يقدم الفن خطوة واحدة، والكونسرفاتوار هو أساس النهضة الموسيقية، فيجب أن نفتح أبوابه للمصريين وغير المصريين، وأن يكون به قسم للبنات؛ لأن تعلم الموسيقى عندهن في حالة يرثى لها حتى لقد أساءوا استعمال البيانو؛ فأصبح بين أيديهن كالدربكة.
وإننا لو اكتفينا بإرسال بعثة إلى المعاهد الموسيقية الأوروبية؛ فإن ذلك لا يأتي بفائدة كبيرة. نحن في حاجة إلى كونسرفاتوار يخرج لنا الممثلين والموسيقيين اللازمين للأوركسترات، والمغنين، والملحنين، حتى ننشئ الأوبرا العربية الراقية، والتمثيل الجيد، والتوقيع الفني.
من يصلح لإدارته؟
فصلنا فيما سبق أن الموسيقى الروسية حافلة بالألحان الشرقية، وأن نهضتهم الحديثة فاقت جميع الأمم. ولما كانت أقرب الموسيقات الأجنبية الراقية تشابها إلى ألحاننا الشرقية، وجب علينا أن نبحث لنا عن أساتذة روسيين لإدارة الكونسرفاتوار، والنظر في إصلاح موسيقانا بعد اطلاعهم على الموسيقى الشرقية وألحانها؛ لمراعاتها والاحتفاظ بأنغامها جهد المستطاع؛ لأن غير الروس من الأوروبيين لا يستطيعون أن يقوموا بهذا العبء العظيم، وفضلا عن ذلك؛ فإنهم يؤثرون في النشء أثرا سيئا حتى تصبح موسيقانا إفرنجية محضة.
وأعظم نابغة روسي في هذا العصر هو المسيو جلازونوف
Glazounow ، أنجب تلامذة رمسكي كورساكوف، وكان مديرا لكونسرفاتوار بتروجراد، ولكنه لم يتفق مع البلشفيك، فغادر الروسيا وأقام منذ بضع سنين في ألمانيا، وفضلا عما يعهد إليه من أعباء الإدارة، فإنه يمكن تكليفه بوضع تقرير فني لإصلاح الموسيقى الشرقية. وبعد الاطلاع على موسيقانا، يؤلف لنا نموذجات من أنواع الموسيقى بالروح الشرقية بعد استماع الكثير من أغانيها وألحانها، ويشترك معه في وضع الأغاني العربية اللازمة للأوبرا أحد الأساتذة الشرقيين؛ ككامل أفندي الخلعي، ثم يضع مثالا من السانفوني والسونات والكونسرتو والباليه - التمثيل الصامت بالرقص - وأنواع الرقص وغيرها.
الأصلح من مناهج التعليم
لما كانت اللغة الفرنسية من أوفى اللغات في الاصطلاحات، وأغناها في المؤلفات الفنية، وجب علينا أن نجعلها لغة الفن، وندرس بها الموسيقى.
ويلزم أن يدرس في الكونسرفاتوار فن الغناء الإفرنجي، ولو قال قائل: ما فائدة الغناء الإفرنجي؟ قلنا له: هو الموصل للغناء العربي، والمربي للصوت، والمهذب لمخارج الحروف؛ لأنه يشمل في منهجه فن الإلقاء، وكيفية إخراج الصوت من مخارجه الحقيقية، وطرق تقوية الصوت، وكيفية الإلقاء، ومطالعة نوتة الغناء، وكيف يغنى في تمثيل الأوبرتات.
ويجب التخصيص لآلة موسيقية من الآلات اللازمة للأوركستر الكبير، ودراسة البيانو والأورج، ودراسة السولفيج والتمرينات الموسيقية المشهورة، والأرموني، والكونترپوان.
وأيضا دراسة فن توزيع الألحان على الآلات الموسيقية، وفن التلحين بأنواعه، وتاريخ الموسيقى وآدابها ونقدها.
وكذا فن التمثيل بأنواعه، ويجب أن يعهد في دراسة التمثيل غير الموسيقي إلى أساتذة فرنسيين؛ لأنهم أقدر الناس في هذا الفن.
أما الموسيقى الشرقية، فيلزم أن تدرس بعد الانتهاء من هذه الفروع بأجمعها؛ أي في السنة النهائية لعدم تشويش ذهن الطالب المبتدئ بفنين مختلفين. وأهم مؤلف يدرس فيها هو رسالة رءوف بك بكتا، الذي سبق الكلام عليه في الموسيقى الشرقية في تركيا، مع دراسة مؤلفات النوابغ الروسيين، الذين سبق ذكرهم، وكذلك مؤلفات دارجومسكي
Dargomisky ، وجلنكا
Glinka . وهؤلاء الفحول السبعة فيهم الكفاية؛ لأننا إذا درسنا مؤلفات الفرنسيين والألمان والطليان ربما فسد ذوقنا الشرقي وأصبح إفرنجيا.
إذا ارتقت موسيقانا عظمها الغربيون
الشرقي ذكي نبيه بفطرته، لا يقل ذكاء عن الغربي، بل ربما فاقه، ولكن الوسط وسوء التعليم حالا بينه وبين النبوغ. ولو تحققت آمالي ونفذ هذا المشروع لأنجبت البلاد شبانا يحيون الموسيقى الشرقية حتى تساوي أختها الغربية في المكانة والفضل، وتوقع في أعظم الحفلات الموسيقية في البلاد الأوروبية.
إن المشاهير من الملحنين من الإفرنج العصريين ينقدون على كل أوبرا من مؤلفاتهم مبالغ تتراوح بين الستة آلاف والعشرة آلاف من الجنيهات، وهذا غير الضريبة التي يدفعها كل مسرح من مسارح الدنيا في كل ليلة تمثل فيها. وهذا الحق يسمى «حق المؤلف»، ويستمر طول حياة المؤلف إلى ما بعد وفاته بخمسين سنة.
أيها الشرقيون، أيقظوا عزائمكم النائمة، وحميتكم الساكنة، واستردوا مجد آبائكم في العلوم والفنون، وبرهنوا للغرب بأن الشرق قد استيقظ من رقدته، وهب من هجعته.
ربما سبقنا الأتراك في هدم السد الحائل بين الموسيقى الشرقية والغربية
في تركيا الآن حزب عظيم ينادي بهدم السدود والحواجز بين الموسيقى الشرقية والغربية حتى يقترنا، وفي طليعتهم رءوف بك بكتا. وإن الأتراك ليسعون إلى الرقي في العلوم والفنون بخطوات واسعات. وأعظم دليل على رقيهم مؤلف رءوف بك، الذي سبق الكلام عنه، وربما سبقونا في رفع تلك السدود، وفتح باب الإصلاح؛ فلنعمل بجد ونشاط حتى نلحقهم.
مستقبل الموسيقى الشرقية
إن مستقبل الموسيقى الشرقية بيد أبناء الشرق، يوجهونها أنى شاءوا؛ إما إلى الأمام، وإما إلى الوراء. وهي الآن دنفة عليلة، وقد شخصنا داءها الدفين، ووصفنا العلاج الناجع لها، ولا ننتظر إلا شراء الدواء، فإن جاد الخيرون بالثمن تحققت الأماني والآمال، وأحيينا مجد الموسيقى الشرقية السالف، وعظمنا في عين الغربيين، وفتحنا بابا جديدا للمجد والفخار. وفقنا الله إلى الحكمة والسداد.
صفحة غير معروفة