ومع أنها كانت على الأغلب ترغب - بعد أن مات خطيبها - في لبس الحداد والانعزال في الجبال مثلا لمدة عام كامل، إلا أن الجميع لم يسمحوا بأن يتركوها في حالها، وكانت تلك المواساة التي أخطأت هدفها، تجرح قلب ريكو أكثر وأكثر، فكان من المنطقي أن تشعر ريكو بالرغبة في البعد عن بلدتها في أسرع وقت ممكن.
وكان أول مكان زارته بعد أن تحدت معارضة الجميع، وهربت من مدينة قوفو، هو عيادتي أنا وليس بيت حبيبها إغامي.
كان يوما يشبه أيام الربيع في دفئه، إلا أن المكيف المركزي عديم الشعور في المبنى، لا يتوقف عن التدفئة. فكنت أجعلهم يفتحون النوافذ من حين لآخر؛ لأن درجة الحرارة المرتفعة داخل الغرفة تجعل أعصاب المرضى يرتفع توترها أكثر وأكثر. ولكن فتح النوافذ كان يؤدي إلى دخول ضوضاء السيارات بلا رحمة، وهبوب الرياح وتراكم الأتربة البيضاء فوق سطح المنضدة البلاستيكي. وذلك كان فصلا يسبب لي العصبية والغضب إلى حد ما.
في فترات الراحة بين جلسات المرضى، كنت أخرج إلى غرفة الانتظار، وأفتح النافذة لأعرض وجهي متعمدا لذلك الغبار وتلك الضوضاء وكأنني أتحداهما. وبينما كنت أتأمل ازدحام الطريق تحت النافذة، لمحت عيناي امرأة تنظر إلى لوحة إعلانات دار السينما المواجهة للعيادة. كانت تحمل في يدها حقيبة سفر نسائية بلون سماوي ومعطفا بنفس اللون، ولكن كل ملابسها الغربية كانت سوداء. ربما بدا عليها أنها تنتظر شخصا ما، ولكن لم يكن الأمر كذلك. كانت تتأمل مبنى العيادة ومبنى دار السينما بالتبادل بنظرات سريعة، ثم تعود لتنظر عاليا تجاه لوحة إعلان الفيلم. لم يكن ذلك التأمل نابعا من الاهتمام، فهي لوحة إعلانية لمشهد حرب كئيب، مثل ذلك المشهد الذي تهجم فيه الدبابات بسرعة، ويهرب جنود الخنادق في جميع الاتجاهات. لوحة إعلانات عنيفة لا يمكن أن تعجب الفتيات.
وأخيرا عرفت لأول مرة أن الفتاة هي ريكو؛ عندما أدركت من نافذة الطابق الرابع أنها تصارع نفسها لإجبارها أن تأتي إلى هذا المبنى . ولكن إن كانت مترددة في المجيء إلى هنا فكان الطبيعي أن تعطي اهتماما خاصا وتنظر إلى نافذة عيادتي. لا توجد علامة مميزة لهذه النافذة، ولكن يفترض أنها تعلم جيدا وجود نافذة في غرفة الانتظار تنظر مباشرة إلى دار السينما تلك، إلا أن ريكو لم ترفع عينيها تجاه نافذتي ولو مرة واحدة، وبذلك فشلت محاولتي في التلويح لها بيدي.
وأعتقد أن ريكو كانت تخاف من النظر إلى نافذة العيادة. كانت هذه النافذة هي تربة أسرارها الوحيدة حقا وسط مدينة طوكيو الواسعة. ربما كانت خائفة من أن تتخيل أسرارها (أثناء غيابها) وكأنها زهور داخل صوبة تدفئة، تتسرب إليها أشعة شمس الربيع عبر زجاج النافذة، فتنشأ وتتربى لتكون باقة زهور عملاقة غير متوقعة.
ولأن ريكو عبرت طريق السيارات ودخلت هذا المبنى فيبدو أنها اتخذت قرارها أخيرا. شعرت وأنا أنتظر طرقها على باب العيادة أن مرور الوقت بطيء جدا كأنها استغرقت ساعات طوالا.
دخلت ريكو العيادة وفرحت بقدرتي على استقبالها استقبالا طبيعيا. ولكنني اندهشت عندما وجدتها بوجه نحيل شاحب ودون أحمر شفاه وقد فقدت تماما مساحيق وجهها ونحفت جدا. وملابسها أيضا؛ أي نعم كانت تضع حليا من الزيركون أو ما شابه، إلا أن الملابس السوداء بأكمام طويلة كانت تشبه ملابس الجنازات وهي تغطي عنقها. من تلك الملابس، يطل فقط وجهها الأبيض متبلد المشاعر وتنظر تجاهي بعينين دامعتين كبيرتين تعانيان بقسوة. كانت تعبر تعبيرا كاملا عن «امرأة الحداد» وعن «امرأة الحزن». إن قلت قولا بلا دليل؛ فقد كانت تتنكر في هيئة «القديسة» تلك لكي تظل مخلصة تجاه «الموسيقى» التي سمعتها بنفسها مرة واحدة فقط، ولكي تقسم على الإخلاص لتلك المتعة التي لا يمكن نسيانها.
كانت الملابس أيضا نوعا من أنواع السلوك الدلالي. تخفي الرغبات الكامنة، وفي نفس الوقت تظهرها. فأنا لم أر في ذلك الوجه العديم الزينة وملابس الحداد تلك إلا تعبيرا عن فرحتها.
قلت لها: «لنعرض عن جلسة العلاج اليوم. فأنا أفهم جيدا وضعك الحالي، وسأسمع منك بصفتي صديقا لك. ولكن لا يوجد مكان هادئ هنا مطلقا، وليس أمامنا إلا دخول غرفة التحليل النفسي.»
صفحة غير معروفة