6
فينهض المرجفون رافضين لهذا رفضا للنموذج الطبيعي، الذي يرد العلوم الإنسانية إلى العلوم الطبيعية أو يختزلها في حدودها لتغدو امتدادا ملحقا بها، وذيلا لها.
والواقع أن الخاصة المنطقية لا تنطوي البتة على أي رد أو اختزال، بل ولا تتعلق بهذا إطلاقا، ذلك أن هذا المشروع الردي الاختزالي هو مشروع الإبستمولوجيا الكلاسيكية وتفسيرها الميكانيكي، فالكون آلة ميكانيكية ضخمة مغلقة على ذاتها، ونظام من مادة وطاقة يسير بفعل علله الداخلية، ويحوي أنظمة أخرى أصغر قليلا أو كثيرا كلها علية ميكانيكية، ونظرا لليقين والضرورة والقطعية ... إلى آخر عناصر الحتمية التي تغمر هذا التفسير الميكانيكي، فقد غالوا في فكرة الرد هذه أو الاختزال، حتى أرادوها تشمل كل إنجاز عقلي جدير بالاعتبار، حتى الأيديولوجية ذاتها التي نهدف للحيلولة بينها وبين العلم، كانت مصطلحا - كما أشرنا - استحدثه دي تراسي عام 1797 ليبشر بنظام سياسي واجتماعي جديد يقوم على العلم الجديد بدلا من كل ترهات الماضي التي كانت لا علمية، وهذه الأيديولوجية فرع من علم الحيوان المردود إلى الفيزياء، وهو فرع يختص بالقدرات العقلية لواحد من الحيوانات العليا وهو الإنسان! على ألا تكون هذه الدراسة متصلة بطبيعة المعرفة كي لا نقع من جديد في أحابيل الفلسفة والإبستمولوجيا، إلى كل هذا الحد سيطر الوهم الردي على العقول في العصر الكلاسيكي، والرد لا يتأتى إلا في قالب حديدي هو «العلم الموحد» أو «وحدة العلم». و«العلم الموحد» هو الرديف الإبستمولوجي المطابق لتصور أنطولوجي يجعل الكون آلة ميكانيكية مغلقة.
ورغم انقضاء العصر الميكانيكي وانهيار الإبستمولوجيا الكلاسيكية، فإن الوطأة الثقيلة المهيبة لمشروع العلم الموحد جعلته يظل ماثلا، حتى نهايات القرن العشرين، مع أن الإبستمولوجيا المعاصرة لا تستدعيه، ولا تحمل له مبررات، وقد راعينا هذا فيما سبق، حين تعرضنا لتصنيف العلوم النسقي تبعا للعمومية المنطقية للمحتوى المعرفي إلى ثلاث مجموعات كبرى، أوضحنا أن هذه مسألة قواعد منطقية للعلاقات النسقية بين العلوم، ولا تعني ردا أو اختزالا، وطبعا لا علاقة لها بشرف العلم، ومكانته وسموه - تبعا لشرف موضوعه - تلك الفكرة التي سادت تقسيم العلوم في العصر الوسيط، وتبخرت مع مطالع العصر الحديث وإشراقة العلم الحديث؛ لتغدو كل العلوم متساوية في الشرف والمكانة، ثم في الاستقلال، بل وحرصنا طوال البحث على تعقب فلول الرد مثلا حين رفضنا اعتبار الرياضة لغة كل العلوم، وتعقبنا حتى بقاياه العالقة بالسلوكية بجلال قدرها، ورغم فضلها العظيم في تطور علم النفس.
لكن لأن الإبستمولوجيا الكلاسيكية لا تزال تنازع الإبستمولوجيا المعاصرة حتى الآن، فإننا نجد العلم الموحد، وحتى الثمانينيات من القرن العشرين لا يزال بدوره موضوعا لخلاف حاد، وبغية توضيح أطر هذا الخلاف يمكن حصره بين طرفين متضادين: روبير بلانشيه كمدافع قوي عن وحدة العلم، وجوزيف مارجوليس كأشد الرافضين لها إصرارا وإمعانا، ولكن لم يجد بلانشيه ما يقوله سوى: «وحدة العلم قد غدت واقعا معترفا به على مستوى الممارسة اليومية للعلم، فأصبحت تشغل اليوم كذلك مكانا مهما في فلسفة التجريبية المنطقية»
7
أي الوضعية المنطقية التي سادت في أواسط القرن العشرين، ثم بادت.
ذلك أنه وبطبيعة المواقف الحدية المتطرفة للوضعية المنطقية في تحمسها المشبوب لكل ما له علاقة بالعلم، نلقاها وقد تحمست بدورها تحمسا مشبوبا بزت به الجميع لمشروع العلم الموحد، حتى يمكن اعتبارها المتحدثة الفلسفية الرسمية باسمه، فقد وجد ذلك المشروع أصفى وأنقى صياغة له في مخططاتهم لبناء «اللغة الفيزيائية
»، بوصفها لغة عمومية للعلم، وأي لغة لأي مجال فرعي في العلم - بمعنى لأي علم آخر غير الفيزياء -يمكن أن تترجم إلى لغة العلم هذه، وبصورة مكافئة تماما لصورتها الأصلية، بناء على هذا نستنتج أن العلم بنية واحدة تكاملية مركزية، لا نجد داخلها مجالات لمواضيع ذات تباين جوهري، وتبعا لهذا لا نجد هوة بين العلوم الطبيعية أو الفيزياء، وهي الحد الأعلى للبنية، وبين العلوم السلوكية، وهي الحد الأدنى.
8
صفحة غير معروفة