وهذا الإحصاء الذي هاجمه كونت، وتنازل بسببه عن المصطلح الذي استعمله منذ البداية (الفيزياء الاجتماعية) أليس هو الآن في عصرنا اللاحتمي هو منهج الفيزياء الذرية - أو الكمومية - ذات القوانين الاحتمالية، وما دامت الإحصاء هي الأسلوب، والاحتمال سمة النتائج، فلن يقوم فارق كيفي بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية ولا هوة بينهما، الفارق كمي فقط في درجة التقدم.
الإحصاء والاحتمال كأساليب منهجية يلغيان افتراض الاطراد في موضوعها، أو على أوسع الفروض يجعلانه يتخذ صورة المقدمات المحتملة تؤدي إلى النتائج المحتملة، فلن نصل أبدا لا في الفيزياء، ولا في علم من العلوم الطبيعية، أو العلوم الإنسانية على السواء إلى موقف كلي واحد يكرر نفسه تماما، وكل ما نلاحظه، وأيضا كل ما يعوزنا افتراضه في الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة أن مقدمات الموقف عندما تكون متشابهة، فإن المعقبات أيضا متشابهة، والنتيجة تقريبية بما يكفي سواء في الطبيعة، أو في الإنسان، فمثلا حين نقيس الماء بمقياس حرارة عادي، فإننا نعامل الماء على أنه مكون من عينات مختلفة لها درجات تكثف مختلفة، ونلاحظ الاختلافات الطفيفة في درجة الحرارة إذا كان مقياس الحرارة دقيقا بما يكفي.
9
هكذا نلاحظ أن الإبستمولوجيا المعاصرة هجرت مبادئ الحتمية من عمومية واطراد؛ لأن هذا يفضي إلى نتائج فيزيائية أو طبيعية أدق وأثمن، الأمر أيضا صحيح بالنسبة لظواهر العلوم الإنسانية التي يستحيل معها أصلا افتراض عمومية مطلقة، واطراد ثابت، كما أوضحنا حين البحث في حيثيات مشكلة العلوم الإنسانية، وحين أمكننا أن نخلف الفكرة الكلاسيكية عن القوانين الطبيعية المطردة التي تسير بدقة مطلقة من أصغر ذرة، حتى أضخم جرم سماوي، وأن نأخذ - بدلا منها - بمبدأ أكثر تواضعا للثوابت التجريبية أو الإحصائية التي تسري في مجالات محددة، أصبحت معرفتنا لظواهر الطبيعة تشابه معرفتنا بظواهر الاجتماع من وجوه عديدة، وكل ما في الأمر أن المعاملات الإحصائية في الاجتماع أو نسب الاحتمال أضعف أو أكثر انخفاضا.
10
مرة أخرى الفرق كمي فقط في الدرجة - درجة التقدم وليس في النوعية - نوعية المناهج والقوانين والمشاكل التي تجعل نتائج البحوث الطبيعية علما، ونتائج البحوث الإنسانية مشكوكا في علميتها.
على هذا النحو يبدو جليا كيف أن الهوة التي أصبح المنظور الكلاسيكي كفيلا بشقها بين العلوم الطبيعية والإنسانية إنما تلتئم تماما من منظور الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة بفضل مبدئها اللاحتمي، والاسترشاد بالمثال اللاحتمي إن كان يلقي على كاهل علماء العلوم الإنسانية مسئولية عسيرة ومرهقة حين يطيح بالركائز الحتمية المطلقة التي بدت كفيلة بضبط أبحاثهم، فإنه يبرئ العلوم الإنسانية من مطمع المغرور، وفي نفس الوقت من اليأس والقنوط من الوصول إلى المثال الحتمي، فيمكننا من أن نعمل بعزيمة حديدية وإمكانات الانطلاق لفروض الجريئة، ويزيد من شحناتها مستوى التجريد الفائق الذي وصل إليه العلم المعاصر في الطبيعة، فلماذا لا يصل إليه في الإنسان أيضا؟
لقد قال المنطقي الميثودولوجي المدقق بريثويت: «إن التقدم الحديث في الفيزياء قد يعطي شحنة قوية لعلماء النفس كيما يضعوا تأملات جريئة؛ لأن النظريات الفيزيائية السائدة تدور حول أشياء لا يمكن تعريفها في حدود الخبرة، وفوق هذا نجد أن بساطة القوانين الفيزيائية واضحة فقط أمام الرياضيين والإحصائيين؛ لذلك أشعر بأن علماء النفس يجب أن تتاح أمامهم حرية كبيرة للعمل، فيما يتعلق بالكيانات التي يستعملونها، وأحسب أن مجالهم قد تعرقل كثيرا في الماضي بمطالب فلاسفة وآخرين (يقصد الوضعيين والسلوكيين) بأن كل مصطلح يستخدم يجب أن يكون له تعريف تجريبي مباشر، على أن علم النفس بالطبع يجب أن يظل علما تجريبيا، وقوانينه المقبولة يجب أن تكون مؤيدة بالوقائع بصورة أو وبأخرى.»
11
أو بعبارة أخرى قابلة للاختبار التجريبي، ثم التكذيب، أو التعزيز، ولما كان قول بريثويت هذا - عام 1931 - ينطلق عن تمثل جيد للإبستمولوجيا العلمية الجديدة الصاعدة آنذاك، فقد أتى تحققها بعد خمسة وعشرين عاما، حين بدأت منذ عام 1956 الثورة المعرفية - علم النفس المعرفي، والعلاج النفسي المعرفي - ثورة على السلوكية ونماذجها الميكانيكية الآلية التي تحققت بنجاح مبدئي في دارسة السلوك الحيواني، فافترض السلوكيون أن الأفعال الإنسانية جميعا، حتى اللغة والأفكار والإبداع وسمات الشخصية ... إلخ يمكن تفسيرها بنماذج مشابهة، وإن تكن أكثر تعقيدا، يرفض الجيل الجديد من النفسانيين المعرفيين هذه النظرة الآلية، محتجا بأن هناك تراكيب وعمليات للعقل لا سبيل إلى إحالتها إلى أخلاط من الاستجابات المدعمة، فنظروا إلى القيود التي وضعتها السلوكية في نصف القرن الأخير بوصفها قيودا عقيمة، وأنها - للأسف الشديد - مصوغة على أساس تصور العلوم الفيزيائية عفى عليه الزمان.
صفحة غير معروفة