9
والحق أن هذا هو عينه نص العقلانيين في القرن الثامن عشر هولباخ، ودولامبير، ولامتري، وكوندرسيه. إنهم أكدوا إمكانية الرياضة الاجتماعية والفيزياء الاجتماعية وفسيولوجيا كل شعور أو اتجاه أو نزوع، في نفس دقة وجدوى أصولها في العلوم الطبيعية، وإن الميتافيزيقيين ضحية الوهم والخداع، فلا شيء في الطبيعة غائي، وكل شيء خاضع للقياس، وفي الإجابة عن الأسئلة التي تؤرقنا، سيشرق علينا الفجر بنور العلم.
10
بل إن أصحاب الدراسات الإنسانية، خصوصا النفس والاجتماع، نازغهم الحلم الطوباوي بالظفر بمنزلة تساوي منزلة الفيزياء بمناهجها الرياضية وتطبيقاتها القوية، وربما الظفر بمنزلة تفوق الفيزياء، وذلك عن طريق إعادة تشكيل البشر والمجتمعات.
11
كان هذا هو الحلم الذي أينع طوال القرن الثامن عشر، حتى عرف كيف يتلمس طريقه إلى أرض الواقع خلال القرن التاسع عشر بفضل الاسترشاد بالمثال الحتمي. ولئن كانت رواسب المثاليات المنطقية لحتمية نيوتن الميكانيكية العلية، بكل قصوراتها التي هي قصورات المشروع العلمي آنذاك، والتي لا تزال عالقة بأذهان بعض العلميين حتى الآن، من العوامل التي تعرقل حل مشكلة العلوم الإنسانية، حتى إن التخلص من براثنها، واستيعاب الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة للنسبية والكمومية كفيل بمعالجة الإشكالية - كما سنرى - بل ولئن كانت فكرة الحتمية في حد ذاتها، وبعد أن اندثرت من العلوم الطبيعية، من الأفكار التي لا يزال يتمسك بها بعض الباحثين في العلوم الإنسانية، وبطريقة قد تجعلهم ينتهون إلى أنها ليست ضرورية ولا حتمية، فنخرج بموقف شديد الغرابة في العلوم الإنسانية، يعني حتمية ولاحتمية، تناقض ذاتي
12 ... نقول مع هذا، فإن الذي يهمنا الآن أن نلاحظ دور الحتمية في إطار عصرها، وكيف فتح المشروع الكلاسيكي الطريق أمام الدراسات الإنسانية، لتلحق بمسيرة العلم الظافرة، وتتفتح أكمامها العلمية بري إبستمولوجيته، فشهد القرن التاسع عشر النشأة الناضجة لعلم الاقتصاد على يد آدم سميث.
13
ثم التطور الجذري على يد ماركس، ولعلم الاجتماع الذي نشأ على يد أوجست كونت، لحق به علم النفس، واستقام الجذع العلمي لعلوم السياسة ... إلخ.
ولا ننسى في هذا الصدد استبسال الجبهة الأعمق من فلاسفة العلم في القرن التاسع عشر. وعلى رأسهم جون ستيورات ميل
صفحة غير معروفة