29
وبعبارة أخرى، لا يوجد علم عادي وعلم ثوري، كل علم طبيعي هو علم ثوري من حيث هو مطرد التقدم، فقط بدرجات متفاوتة لهذه الثورية.
ولما كان بحثنا هذا مختصا بمنطق العلم - صميم بنيته الداخلية - بات واضحا لماذا نعتمد النظرية الثورية في طبيعة التقدم العلمي.
وعلى أي حال فإن التقدم المطرد للعلوم الطبيعية هو - كما أوضحنا - متصل صاعد، ولكن بحيث يمثل متوالية منطقية. فلا يعني البتة مجرد تراكم كمي رأسي، في مقابل التراكم الكمي الأفقي لبقية مناحي الإبداع الإنساني - كالفنون والآداب والفلسفات والأنظمة ... إلخ - بل يعني تضاعف القوة المنطقية لنظريات النسق العلمي، خصوصا في تصديها للمهمة التفسيرية التي هي تحد لا نهاية له، تمثل وقائع التجريب محكمه النهائي، وفيصل الحكم على مصير الفروض والنظريات العلمية.
من هنا كان العلم الطبيعي في كل حال علما تجريبيا، حتى الفيزياء البحتة دونا عن الفيزياء التجريبية أو المعملية - التي هي نسق فرضي استنباطي - فتبدو من الناحية الصورية أقرب إلى الرياضيات، أو لعلها من ناحية المناهج الإجرائية هكذا فعلا، فإنها - أي الفيزياء البحتة - ومهما روعي فيها الاتساق الرياضي والقوة الاستنباطية للفروض، لا مندوحة لها عن المواجهة مع الواقع، فتلتجئ في النهايات البعيدة إلى وقائع التجريب بشأن الاستنباطات الجزئية العينية القصية - بصفة خاصة التنبؤات - المشتقة من فروضها الأولية، لنحكم على هذا وذاك بواسطة التجريب. إن كل علم هو تجريبي من حيث هو إخباري؛ أي يخبرنا عن الواقع وظواهره.
والهدف من أي علم تجريبي إخباري هو الإجابة عن السؤال: كيف ولماذا تحدث الظاهرة موضوعه؟
المرحلة الأولى من العلم - منطقيا وليس تاريخيا
30 - هي المرحلة الوصفية التي تجيب عن السؤال: كيف تحدث الظاهرة؟ كيف تتبدئ؟ ولكن هذا لا يكفي. فتمهيد الطريق لإحكام السيطرة على الظاهرة فيما يعرف بالتقانة التي ارتهنت بنسق العلم التجريبي الحديث - دونا عن سواه من أنساق جمة أنشأها العقل البشري .
هذا يستلزم الانتقال من المرحلة الوصفية، وبناء عليها إلى المرحلة التالية عليها. وهي المرحلة التفسيرية التي تجيب عن السؤال: لماذا تحدث الظاهرة؟ أما التنبؤ، وهو الغاية النهائية المرومة من العلوم الطبيعية، فليس يفترق عن التفسير، بل هو - أولا - معلم نجاح التفسير، خصوصا الفيزيائي. وهو - ثانيا - يتخذ نفس البناء المنطقي الصوري للتفسير؛ أي الاستنباط. كلاهما يشتمل على: (أ)
شروط مسبقة أو مبدئية. (ب)
صفحة غير معروفة