58

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

تصانيف

هوامش

الفصل الرابع

سبينوزا وموت الرغبة

دفع كوبرنيكوس ثمن زحزحة الإنسان من مركز الكون، وكذلك فعل مكافئه الفلسفي بينيدكتوس دي سبينوزا، فقد طرد سبينوزا - ابن الرجل اليهودي الشرقي البرتغالي الذي هاجر إلى هولندا هربا من الاضطهاد الديني - من معبده في أمستردام بتهمة الهرطقة، وسافر بصحبة مسيحيين منشقين، وأطلق عمله الرائع المنادي بالتسامح الديني والسياسي، «رسالة في اللاهوت والسياسة»، الذي استنكر باعتباره عملا «أتى به من الجحيم يهودي مارق وشيطان.» والكتاب كذلك نقد تاريخي وعلمي للكتاب المقدس يهدف إلى نسف الخرافات التي يتغذى عليها الاستبداد.

لقد كان هذا المناصر الكبير للتحرر العقلاني مؤيدا على طريقته لما يمكن أن نسميه نظرية للأخلاق الرمزية. لم يكن ذلك بالتأكيد بنفس درجة الاكتمال التي سنراها في كتابات إيمانويل كانط؛ إذ يرى، بعكس كانط، أن النظام الرمزي للمجتمع يحظى بدعم الطبيعة، أي إن الطبيعة والإنسانية مرتبط كل منهما بالأخرى ارتباطا لا فكاك منه، بل إنهما وجهان لنظام واحد تحكمه قوانين كلية يطلق عليها سبينوزا في عمله «الأخلاق» أحيانا اسم الرب؛ فالقوى التي تسبب سقوط ورق الشجر هي نفسها القوى التي تشكل عواطفنا، إلا أن الطبيعة لا اهتمام لها بنا نحن البشر وهي لا غرض لها؛ فلكي تواجه الذوات بعضها بعضا في النظام الخيالي يجب عليها أن تدخل في مواجهة بعضها بعضا، حتى وإن كانت لا تفعل ذلك إلا لتتسلل إلى داخل بعضها. لكننا عند سبينوزا لم نعد مدعوين لرؤية العالم من داخل الباطن الباهر للذات، بل ينظر للرجال والنساء بصورة طبيعية من الخارج بنفس الموضوعية التي ينظر بها عالم الحشرات لإحدى الحشرات؛ فهم عناصر نظام شامل، نظام تعتبر قوانينه في غالب الأمر مستعصية عليهم كما تخفى البنية العميقة لأسطورة ما على أتباع ليفي-ستروس. يقر سبينوزا، الذي يؤمن بأن الفكر الحقيقي كله يتطلع لكمال الهندسة، في عمله «الأخلاق» بأنه سيبدو من الغريب على قرائه أن «يتناول رذائل الناس وزلاتهم بأسلوب هندسي، وأن يتطلع لأن يبين بمنطق راسخ تلك الأشياء التي يشكون منها باعتبارها منافية للمنطق ولا طائل منها وسخيفة ومقززة.» مع ذلك فإن تبني روح الهندسة هذه هو في النهاية باسم الحب والتسامح، وهو في نظر سبينوزا أجدى من أي نوبة عاطفة قصيرة.

كما أن الرجال والنساء عند سبينوزا ليسوا فواعل مستقلة، كما هو حالهم عند كانط والمفكرين «الرمزيين» - هابرماس ورولز - الذين يمجدون تيار الأخلاق هذا في زماننا الحاضر، بل هم على العكس ضحايا للسببية لا حول لهم ولا قوة مثل مريض السرطان. لكن هذه الاستقلالية في رأي لاكان - على الأقل في أكثر مراحله اتصافا ب «البنيوية» - وهمية على أية حال في معظم الأحيان؛ فاعتقاد الأنا بأنها سيدة نفسها يخفي وراءه اعتمادها على قانون الدال، أو - كما في رأي سبينوزا - على قوانين الطبيعة. والحرية عند العوام من الناس - مقابل المتخصصين الذين يدرسون سلوكهم - هي الجهل بالضرورات. إن غفلتنا عن أسباب أفعالنا هي السبب في إمكانية امتلاك الوهم المعروف بالحرية. يبين تي إس إليوت في واحدة من أكثر الفقرات اقتباسا في النقد الإنجليزي مفهومه السلبي المستنكر للخيال الإبداعي بأن كتب كيف أن العقل الشاعري يربط تلقائيا أحاسيس مثل الوقوع في الحب وسماع صوت الآلة الكاتبة وشم رائحة الطعام وهو يطهى وقراءة أعمال سبينوزا. إن العامل المشترك بين الأمثلة الثلاثة الأولى هو خلوها من الإرادة، اللهم إلا إن كان شم رائحة الطعام المذكور تشمما؛ لذا من الملائم جدا أن الفيلسوف الذي خطر ببال إليوت لم يؤمن بمثل هذه الملكة، وإن خطر اسم سبينوزا على ذهن إليوت تلقائيا فقد تكون الفقرة مثالا على ما تقوله.

حتى الرب عند سبينوزا، الذي لا يحبنا ولا يكرهنا، ليس حرا في فعل ما يحلو له، فهو حر بمعنى أنه يقرر مصيره، يحركه ما تمليه عليه طبيعته الإلهية؛ لكن لا يمكنه أن يكون مثلنا ويظل إلها. وهذه النظرة في إطار هذا السياق نظرة راديكالية سياسيا؛ فالرب ليس ملكا مستبدا متقلبا يحكم بأحكام اعتباطية، وهو ليس مدللا ونزويا كمطرب مشهور. وعلينا أن نحترس أشد الاحتراس، كما يحثنا سبينوزا في كتاب «الأخلاق»، من الخلط بين سلطة الرب وسلطة الملوك؛ فبعكس الطغاة، على الرب أن يحترم قوانين الكون. إن قوانين الكون هي ما نعنيه بالرب، الذي هو كامن في الطبيعة وليس فوقها؛ فالعالم، باختصار، هو جسد الرب، وإن اختلف عما هو عليه فلن يكون الرب ربا مثلما سأكون شخصا آخر إن سكنت جسدا مختلفا كلية . وبما أن كل أفعال الرب مسألة ضرورة، فإن من المستحيل أن يخلق العالم خلقا مختلفا، وهي فكرة تعد في نظر سبينوزا حافزا قويا على مذهب الرواقية. سينظر الحكماء إلى الزلات والكوارث الإنسانية كما ينظر الإنجليز إلى الطقس: فهي أشياء غير مقبولة؛ لكن هناك عزاء في أنها لا يمكن أن تتغير. كما أن هناك كذلك إمكانية أن نصبح نحن شبيهين بالرب، تحرك أفعالنا الضرورة المحضة في طبيعتنا الخاصة من دون أي إلزام خارجي. إن هذا هو ما عرفه سبينوزا - استباقا لكانط - بالحرية؛ فالحرية ليست انعدام الجبرية، بل هي المشروع الشاق المتمثل في تقرير الذات.

إن الحقيقة القائلة أن لا شيء يمكن أن يكون بخلاف ما هو عليه لا تتوافق بالطبع مع الحكمة التقليدية للعامة؛ إذ يرى لوي ألتوسير - الذي اعتنق شكلا من الماركسية المصطبغة بفلسفة سبينوزا - أن كلا من الضرورة والحرية سمة من سمات الأيديولوجيا؛ ضرورة لأننا تحت تأثير الأيديولوجيا نتصور أن وجودنا الفردي ضروري بصورة ما للمجتمع ككل وأننا خرجنا إلى العالم مرتبطين به كما يرتبط الأطفال بآبائهم؛ والحرية لأن النظام الخيالي الأيديولوجي يمدنا - من خلال «وضعنا في المركز» بهذا الشكل - بقدر كاف من الوضوح والإحساس بالاستقلالية لنتصرف باعتبارنا فواعل لها غايات. ويدرك الجزء الأكثر ظلمة من النظرية أن وجودنا باعتبارنا أفرادا محتمل تماما؛ أي أن النظام الرمزي متعلق بمواضع معينة، وأن ما يشغلها مسألة ثانوية بحتة. لكن النظرية تعي كذلك وجود ضرورة لوجودنا اليومي باعتبارنا «حاملين» لقوانين التاريخ التي نجهلها في الأغلب، فالعقل التقليدي عند سبينوزا يفترض أن الأشياء في عالم الأيديولوجيا - أي عالم التجارب اليومية المحير بشدة - حرة، ووجودها محتمل وتحركها الصدفة والعمل، بينما تدرك الفلسفة أنها جامدة لا تتغير كالصخر. فإن كانت الذات عند لاكان منقسمة بين النظام الخيالي والنظام الرمزي، فالمثل ينطبق عند سبينوزا على المجتمع الإنساني نفسه، الذي ينقسم بين الرعاع المضللين وحاملي المعرفة الحقيقية؛ فنظرية سبينوزا الأخلاقية من هذا المنطلق طبقية بقدر تلك الخاصة بأرسطو.

إذا ينتمي سبينوزا لتيار فلسفي - يمتد من أفلاطون مرورا بشوبنهاور وماركس وصولا إلى نيتشه وفرويد وليفي-ستروس - يرى التجربة موطن الوهم. وفي هذا أعظم تناقض مع العالم القائم على البديهة عند هتشسون وسميث، وهما رجلان يتمتعان بإيمان راسخ بما يمكن لمسه والإحساس به. وتعتبر جذور ذاتيتنا في ضوء هذا التراث التشككي مجهولة إلينا، ومجهولة بالضرورة (عند معظم المفكرين المتشككين). إننا لا يمكننا أن نكون أنفسنا إلا من خلال كبت محددات وجودنا الحقيقية أو نسيانها أو التعمية عليها؛ فنحن نتحدث لغة العالم بطلاقة؛ لكن قواعدها عصية علينا.

يعد الوعي التقليدي من منظور سبينوزا مرتكزا على الإنسان تلقائيا؛ فالأيديولوجيا التي نسقط فيها عند مولدنا هي نوع من الإنسانوية التلقائية، فالرجال والنساء «خياليون» أو منشغلون بالذات بالفطرة، حيث يعتبرون أن الواقع يقدم إليهم ويصاغ حسب أهدافهم. وهم عاجزون عن إدراك أن وجود الأشياء - مثلما هو الحال مع النظام الرمزي عند لاكان - يقوم تماما على النسبة بين بعضها وبعض، من دون جوهر ذاتي تقوم عليه. إن فكر سبينوزا معارض للاهوت بشدة؛ لكن العامة يفترضون أن العالم خلق لحكمة، وأن هذه الحكمة تبلغ أقصاها بتحقق رفاهتهم، فكل فرد يثق بأن الرب «خلق كل شيء من أجل الإنسان» وأن «الرب يمكن أن يحبه أكثر مما سواه ويسخر الطبيعة كلها لإرضاء طمعه الأعمى وجشعه الذي لا ينتهي.»

صفحة غير معروفة