ثم فزعوا إلى الأكبر من أولاده فصيروه عليهم ملكا، فجعل جسد أبيه في تمثال من الذهب، وسلك طريق من كان قبله في فعلهم مقتديا بمن مضى من آبائه، وكان اسم هذا الملك توتال فاستقامت له الامور وأحدث من السنن المحمودة ما لم يحدثه أحد ممن سلف من ملوكهم وزعم أن الملك لا يثبت إلا بالعدل فإن العدل ميزان الرب، وإن من العدل الزيادة في الإحسان مع الزيادة في العمل وحصن، وشرف، وتوج ورتب الناس في رتبهم ووقفهم على طرائقهم، وخرج يرتاد موضعا ليبني فيه هيكلا، فافى موضعا عامرا بالنبات حسن الاعتمام بالزهر تخترقه المياه فحط الهيكل، وجلبت له أنواع الأحجار المختلفة الألوان فشيد الهيكل وجعل على علوه قبة، وجعل لها مخارج للهواء متساوية، ونصب فيها بيوتا لمن أراد التفرد بالعبادة فلما فرغ منها نصب في أعلاها تلك التماثيل التي فيها أجسام من سلف من آبائه، وأمر بتعظيمها، وجمع الخواص من أهل مملكته وأخبرهم أن من رأيه ضم الناس إلى ديانة يرجعون إليها لجمع الشمل وتساوي النظام، فإنه متى عدم الملك الشريعة لم يؤمن عليه الخلل، ودخول الفساد والزلل، فرتب لهم سياسة شرعية، وفرائض عقلية، وجعلها لهم رباطا، ورتب لهم قصاصا في الأنفس والأعضاء، ومستحلات مناكح يستباح بها النسوان، وتصح بها الأنساب، وجعلها مراتب فمنها لوازم موجبة يحرجون من تركها، ومنها نوافل يتنفلون بها، وأوجب عليهم صلوات لخالقهم تقربا لمعبودهم: منها إيماء لا ركوع فيها ولا سجود في أوقات من الليل والنهار معلومة،ومنها بركوع وسجود في أوقات من السنة والشهور محدودة، ورسم لهم أعيادا، وجعل على الزناة منهم حدا، وعلى من أراد من نسائهم البغاء جزية مفروضة، وأن لا يسجن النكاح إلا في وقت من الأوقات، وإن أقلعن عما كن عليه تكف الجزية عنهن، وما يكون من أولادهن ذكورا يكون للملك عبيدا وجندا، وما يكون محن أولادهن إناثا، ملأمهاتهن، ويلحقن بصنعتهن، وأمرهم بقرابين للهياكل ودخن، وأبخرة للكواكب، وجعل لكل كوكب منها وقتا بتقرب إليه فيه بدخن معلوم من أنواع الطيب والعقاقير، وأحكم لهم جميع الأمور، فاستقامت أيامه، وكثر النسل، فكانت حياته نحوا من مائة وخمسين سنة، وهلك، فجزعوا عليه جزعا شديدا، فجعلوه في تمثال من الذهب الأحمر ورصعوه بأنواع الجواهر، وبنوا له هيكلا عظيما، وجعلوا سقفه سبعة ألوان من الجوهر على أنواع الكواكب السبعة من النيرين والخمسة بألوانها وأشكالها، وجعلوا يوم وفاته صلوات وعيدا يجتمعون فيه كلند ذلك الهيكل، وصوروا صورته على أبواب المدينة وعلى الدنانير الفلوس وعلى الثياب، وأكثر أموالهم الفلوس الصفر والنحاس، فاستقرت هذه المدينة بدار ملك الصين، وهي مدينة انموا، وبينها وبين البحر نحومن ثلاثة أشهر وأكثر من ذلك على حسب ما قدمنا آنفا، ولهم مدينة عظيمة نحو ما يلي من أرضهم مغرب الشمس، يقال لها مد، وتلي بلاد التبت، والحرب بين بلاد التبت وأهل المد سجال.فلم تزل الملوك ممن طرأ بعد هذا الملك أمورهم منتظمة وأحوالهم مستقيمة، والخصب والعدل لهم شامل، والجور في بلادهم معدوم، يقتدون بما نصبه لهم من الشرع من قدمنا ذكرهم، وحروبهم على عدوهم قائمة، وثغورهم مشحونة، والرزق على الجنود دار، والتجار يختلفن إليهم في البر والبحر من كل بلد بأنواع الجهاز، ودينهم دين من سلف، وهي ملة تدعى السمنية، عباداتهم نحو من عبادات قريش قبل مجيء الإسلام: يعبدون الصور، ويتوجهون نحوها بالصلوات، واللبيب منهم يقصد بصلاته الخالق، ويقيم التماثيل من الأصنام والصور مقام قبلة، والجاهل منهم ومن لا علم له يشرك الأصنام بإلهية الخالق، ويعتقدهما جميعا، وأن عبادتهم الأصنام تقربهم إلى الله زلفى، وأن منزلتهم في العبادة تنقص عن عبادة البارىء لجلالته وعظمته وسلطانه، وأن عبادتهم لهذه الأصنام طاعة له ووسيلة إليه، وهذا الدين كان بدء ظهوره في خواصهم من الهند لمجاورتهم إياهم، وهو رأي الهند في العالم والجاهل على حسب ما ذكرنا في أهل الصين، ولهم آراء ونحل حدثت عن مذاهب الثنوية وأهل الدهر، فتغيرت أحوالهم، وبحثوا، وتناظروا، إلا أنهم ينقادون في جميع أحكامهم إلى ما نصب لهم من الشرائع المقدمة، ومن حيث إن ملكهم متصل بملك الطغرغر على حسب ما تقدم صاروا على آرائهم من اعتقادهم مذاهب المانية والقول بالنور والظلمة، وقد كانوا جاهلية سبيلهم في الاعتقاد سبيل الترك، إلى أن وقع لهم شيطان من شياطين المانية، فزخرف لهم كلاما يريهم فيه تضاد ما في هذا العالم وتباينه: من موت وحياة، وصحة وسقم، وضياء وظلام، وغنى وفقر، واجتماع وافتراق، وإتصال وانفصال، وشروق وغروب، ووجود وعدم، وليل ونهار، وغير ذلك من سائر المتضادات، وذكر لهم أنواع الآلام المعترضة لأجناس الحيوان من الناطقين وغيرهم مما ليس بناطق من البهائم، وما يعرض للأطفال والبله والمجانين، وأن البارىء جل وعز غني عن إيلامهم، وأراهم أن هناك ضدا شديدا دخل على الخير الفاضل في فعله، وهو الله عزوجل، فاجتذب بما وصفنا وغيره من الشبه عقولهم، فدنوا بما وصفنا، فإن كان ملك الصين ينتمي لمذهب ذبح الحيوان كانت الحرب بينه وبين صاحب الترك أيرخان سجالا، وإذا كان ملك الصين متنافي المذهب كان الأمر بينهم في الملك مشاعا، وملوك الصين فو آراء ونحل، إلا أنهم مع اختلاف أديانهم غير خارجين عن قضية العقل والحق، في نصب القضاة والحكام، وانقياد الخواص والعوام إلى ذلك. ونحل، إلا أنهم مع اختلاف أديانهم غير خارجين عن قضية العقل والحق، في نصب القضاة والحكام، وانقياد الخواص والعوام إلى ذلك.
بعض عادات الصين
صفحة ٥٤