وقالت طائفة اخرى: لو كان الجزر والمد بمنزلة النار إذا أسخنت الماء الذي في القدر وبسطته فيطلب أوسع منها فيفيض حتى إذا خلا قعره من الماء طلب الماء بعد خروجه منه عمق الأرض بطبعه فيرجع اضطرارا بمنزلة رجوع ما يغلي من الماء في المرج والقمقم إذا فاض وتتابعت أجزاء النار عليه بالحمي، لكان في الشمس أشد سخونة.، ولوكانت الشمس علة مدةلكان يمدمع بدء طلوع الشمس، ويجزرمع غيبتها فزعم هؤلاء أن علة الجزر والمد في الأبحرتتولد من الأبخرة التي تتولد من بطن الأرض؛ فإنها لا تزال تتولد حتى تكثف وتكثر فتدفع حينئذ ماء هذا البحر لكثافتها فلا تزال كذلك حتى تنقص موادها من أسفل، فإذا انقطعت موادها تراجع الماء حينئذ إلى قعر البحر، وكان الجزر من أجل ذلك، والمد ليلا ونهارا، وشتاء وصيفا، وفي غيبة القمروفي طلوعه، وكذلك في غيبة الشمس وطلوعها، قالوا: وهذا يدرك بالحس، لأنه ليس يستكمل الجزرآخره حتى يبدأ أول المد، ولا ينقضي آخر المد حتى يبتدىء أول الجزر لأنه لا يتغير توالد تلك البخارات، حتى إذا خرجت تولد غيرها مكانها، وذلك أن البحر إذا غارت مياهه ورجعت إلى قعره تولدت تلك الأبخرة لمكان ما يتصل منها من الأرض بمائة، وكلما عاد تولدت، وكلما فاض نقصت.وذهب آخرون من أهل الديانات أن كل ما لم يعرف له من الطبيعة مجرى ولا يوجد له فيها قياس فهو فعل الإله، يدل على توحيد الله عز وجل وحكمته؛ فليس للمد والجزرعلة في الطبيعة البتة، ولا قياس . وقال آخرون: ما هيجان ماء البحر إلا كهيجان بعض الطبائع ة فإنك ترى صاحب الدم وصاحب الصفراء وغيرهما تهتاج طبيعته ثم تسكن، وكذلك مواد تمدها حالا بعد حال، فإذا قويت هاجت،، ثم تسكن قليلا قليلاحتى تعود. وذهبت طائفة أخرى إلى إبطال سائر ما وصفنا من القول، وزعموا أن الهواء المطل على البحريستحيل دائما، فإذا استحال عظم ماء البحر وفاض عند ذلك، وإذا فاض البحر فهو المد، فعند ذلك يستحيل ماؤه ويتنفس فيستحيل هواء فيعود إلى ما كان عليه، وهو الجزر، وهو دائم لا يفتر، متصل مترادف متعاقب؟ لأن الماء يستحيل هواء، والهواء يستحيل ماء، قالوا: وقد يجوز أن يكون ذلك عند امتلاء القمر أكثر؛لأن القمر إذا امئلأ استحال الهواء أكثر مما كان يستحيل، وإنما القمر علة لكثرة المد، لا للمد نفسه، لأنه قد يكون والقمر في محاقه، والمد والجزر في بحرفارس يكونان على مطالع الفجر في الأغلب من الأوقات.وقد ذهب كثير من نواخذة هذا البحر وهم أرباب المراكب، من السيرافيين والعمانيين ممن يقطعون هذا البحر ويختلفن إلى عمائره من الأمم التي في جزائره وحوله إلى أن المد والجزر لا يكون في معظم هذ البحر إلا مرتين في السنة: مرة يمد في شهور الصيف شرقا بالشمال ستة أشهر، فإذا كان ذلك طغا الماء في مشارق الأرض وبالصين بالصين وما وراء ذلك الصقع وانحسر بالصين من مغارب البحر، ومرة يمد في شهور الشتاء غربا بالجنوب ستة أشهر، فإذا كان الصيف طغا الماء في مغارب البحر وانحسر بالصين، وقد يتحرك البحر بتحرك الرياح، وإن الشمس إذ كانت في الجهة الشمالية تحرك الهواء إلى الجهة الجنوبية لعلل ذكروها فيسيل ماء البحر بحركة الهواء إلى الجهة الجنوبية، فكذلك تكون البحار في جهة الجنوب في الصيف لهبوب الشمال طامية عالية، وتقل المياه في جهة البحار الشمالية، وكذلك إذا كانت الشمس في الجنوب وسال الهواء من الجنوب إلى جهة الشمال سال معه ماء البحر من الجهة الجنوبية إلى الجهة الشمالية، فقلت المياه في الجهة الجنوبية منه، وينتقل ماء البحر في هذين الميلين أعني في جهتي الشمال والجنوب فيسمى جزا ومدا، وذلك أن مد الجنوب جزر الشمال ومد الشمال جزر الجنوب، فإن وافق القمر بعض الكواكب السيارة في أحد الميلين تزايد الفعلان وقوي الحمي واشتد لذلك سيلان الهواء فاشتد لذلك انقلاب ماء البحر إلى الجهة المخالفة للجهة التي ليس فيها الشمس.قال المسعودي: فهذا رأي يعقوب بن إسحاق الكندي وأحمد بن الطيب السرخسي فيما حكاه عنه: أن البحر يتحرك بالرياح، ورأيت مثل ذلك ببلاد كنباية من أرض الهند، وهي المدينة التي تضاف إليها النعال الكنبائية الصرارة وفيها تعمل وفيما يليها مثل مدينة سندارة وسريارة،وكان دخولي إليها في سنة ثلاث وثلثمائة، والملك يومئذ بانيا، وكان برهمانيا من قبل البلهري صاحب المانكير، وكان لبنيا هذا عناية بالمناظرة مع من يرد إلى بلاد من المسلمين وغيرهم من أهل الملل، وهذه المدينة على خور من أخوار البحر، وهو الخليج، أعرض من النيل أو دجلة أو الفرات، عليه المدن والضياع والعمائر والجنان والنخل والنارجيل والطواويس والببغاء وغير ذلك من أنواع طيور الهند، بين تلك الجنان والمياه، وبين مدينة كنباية بين البحر الذي يأخذ منه هذا الخليج يومان، أو أقل من ذلك فيجزر الماء عن هذا الخليج حتى يبمو الرمل في قعر الخليج ويبقى في وسطه قليل من الماء فرأيت الكلب على هذا الرمل الذي ينصب عنه الماء وقعر خليج قد صار كالصحراء، وقد أقبل المد من نهاية الخور كالخيل في الحلبة، فربما أحس الكلب بذلك فأقبل يحضر ما استطاع خوفا من الماء، طلب البر الذيى لا يصل إليه الماء، فيلحقه الماء بسرعته فيغرقه، وكذلك المد يرد بين البصرة والأهواز في الموضع المعروف بالباسيان وبلاد القندر، ويسمى هناك الذئب له ضجيج ودوي وغليان عظيم يفزع منه أصحاب السفن وهذا الموضع يعرفه من يسلك هنالك إلى بلاد مورق من أرض فارس، والله أعلم.
ذكر بحر الروم ووصف ما قيل في طوله وعرضه وابتدائه وانتهائه
صفحة ٤٤