مضي الماء في فيحته وسيحته وسنن جريته، والجزر: رجوع الماء على ضد سنن مصيه وانكشاف ما مضى عليه في هيجه، وذلك كبحر الحبش الذي هو الصيني والهندي وبحر البصرة وفارس المقدم ذكره قبل هذا الباب وذلك أن البحار على ثلاثة أنواع: منها ما يتأتى فيه الجزر والمد ويظهرظهورا بينا، ومنها ما لا يتبين فيه الجزر والمد ويكون خفيفا مستترا، ومنها مالا يجزر ولا يمد. فالبحار التي لا يكون فيها الجزر والمد امتنع منها الجزر والمد لعلل ثلاث، وهي على ثلاثة أصناف: فأولها ما يقف الماء فيه زمانا فيغلظ وتقوى ملوحته، وتتكيف فيه الأرياح، لأنه ربما صار الماء إلى بعض المواضع ببعض الأسباب فيصير كالبحيرة وينقص في الصيف ويزيد في الشتاء، ويتبين فيه زيادة ما ينصب فيه من الأنهار والعيون، والصنف الثاني البحار التي تبعد عن مدار القمر ومسافاته بعدا كثيرا، فيمتنع منه المد والجزر، والصنف الثالث المياه التي يكون الغالب على أرضها التخلخل، لأنه إذا كانت أرضها مخلخلة نفذ الماء منها إلى غيرها من البحار وتخلخل؛ وأنشبت الرياح الكائنة في أرضها أولا فأولا، وغلبت الرياح عليها، وأكثر ما يكون هذا في ساحل البحار والجزائر.
وقد تنازع الناس في علة المد والجزر؛ فمنهم من ذهب إلى أن ذلك من القمر لأنه مجانس للماء، وهو يسخنه، فينبسط، وشبهوا ذلك بالنار إذا أسخنت ما في القدر وأغلته، وإن الماء يكون فيها على قمر النصف أو الثلثين، فإذا غلا الماء انبسط في القدر وارتفع وتدافع حتى يفر فتتضاعف كميته في الحس، وينقص في الوزن ة لأن من شرط الحرارة أن تبسط الأجسام، ومن شرط البرودة أن تضمها، وذلك أن قعور البحار تحمي فتتولد في أرضها عفبة وتستحيل وتحمى كما يعرض ذلك في البلاليع والابار، فإذا حمي ذلك الماء انبسط، وإذا أنبسط زاد، وإذا زاد ارتفع، فدفع كل جزء منه صاحبه، فطفا على سطحه وبان عن قعره، فاحتاج إلى أكثر من وهدته، وإن القمر إذا أمتلأ حمي الجو حميا شديدا فظهرت زيادة الماء، فسمي ذلك المد الشهري، وإن هذا البحر تحت معدل النهارأخذا من جهة المشرق إلى المغرب ودور الكواكب المتحيرة عليه مع ما يساميه من الكواكب الثابتة إذا كانت المتحيرة في القدر مثل الميل على تجاوزه، وإذا زالت عنه كانت منه قريبة فاعلة فيه من أوله إلى آخره في كل يوم وليلة، وهي مع ذلك في الموضع المقابل الحمي، فقليل مايعرض فيه من الزيادة ويكون في النهر الذي يعرض فيه المد بينا من أطرافه وما يصب إليه من سائر المياه.
صفحة ٤٣