فأجابه الصوت عبر الهاتف: «لقد سمعت عنك. ما دمت راقيا لدرجة تقدير سيد النحل غاية التقدير، فهذا يدل على أنك أنت نفسك شخص طيب. وإنه يسرنا أن تأتي ذات يوم مع صغيرنا وتتناول معنا العشاء.»
قال جيمي: «بالقطع، شكرا لك!» وتابع: «إنه لكرم شديد منك. لقد ظللت متوعكا وأتحاشى الناس لوقت طويل، لكن أعتقد أنه سيسعدني أن آتي مع قائد الكشافة ذات مساء، حين لا يكون عندكم ضيوف والجلوس بصحبتكم لساعة.»
فقال الصوت الذي أحب جيمي كل نبرة من نبراته: «اتفقنا إذن. فلتأت متى أحببت. فلدينا دائما على مائدتنا طعام كاف لشخص آخر ومساحة لإقحام مقعد زائد. تعال في الحال متى وددت!»
أغلق جيمي الهاتف ونظر حوله. لم يكن لديه مزاج للقراءة. دخل المطبخ واحتسى حصته اليومية من عصير البرتقال، وحين وصل إلى الباب الخلفي كان ثمة نداء في الهواء، نداء لباه بدمائه. إذ نزل المسار الخلفي وخرج من البوابة ومضى إلى أكمة زهور الربيع الخاصة به. فتمدد على الرمال، وشد قبعته فوق عينيه ليظلهما من الشمس، منسجم الجسد مع منحنيات الأكمة، وفي الحال غاب عن الوعي في غيبوبة من النوم العميق المستغرق المنعش.
وبعد برهة استيقظ، وقبل حتى أن يستعيد انتباهه تماما، تشمم الهواء بأنف مستقص. وقال جيمي محدثا نفسه: «يا للعجب! لقد اخترت هذه الأكمة لمنحناها شديد الإغراء بالجلوس، لكنني لم أر عليها أيا من زهور رعي الحمام الرملي.»
أخذ جيمي نفسا عميقا ليتأكد من أنه لم يخطئ بشأن العبير الذي اختلط مع زهور الربيع حوله. وأدرك أنه مع اقتراب المساء تتفتح زهور رعي الحمام لتنشر شذاها الطيب جدا. وحينئذ فتح عينيه واستقام لينظر حوله، فاكتشف أن يده اليمنى كانت مليئة بزهور رعي الحمام. راح يحدق فيها، ثم استدار سريعا مستندا إلى ركبتيه متفحصا الشاطئ طويلا من أقصاه لأدناه، ثم غير اتجاهه وجعل يبحث الرمال بعينين متلهفتين.
كانت هناك. أثر قدم لامرأة، ليس الأثر مدبب المقدمة والكعب الذي كان يراه أحيانا غائرا في الرمال. أثر قدم مخصصة للعمل، في حذاء معقول في عرضه، وغريب في طوله، ذي كعب يدل على رجاحة العقل بلا ريب. نهض جيمي، وأمسك بزهوره، واقتفى ذلك الخط من آثار الأقدام طوال الشاطئ وصولا إلى العرش. بقلب يدق دقا عنيفا ورأس يدور، تسلق إلى العرش وجال فيه ببصره، فشعر بخيبة أمل شديدة حين وجده خاليا. اتخذ مقعده أقصى الجنوب ليفكر. ظل هناك، وأخذ يتشمم بحرص الصخور بجانبه. فوجد أن عبق المريمية، وعبير رعي الحمام، وزهور الربيع، كانت واضحة للغاية. وحتى لا يضيع وقتا، سلك طريقه هابطا الصخرة. إلا أن الآثار المؤدية إليها لم تتصل. فالسبيل من العرش إلى الطريق أعلاه مكون من حصى وأحجار صغيرة وصخور لا يمكن تمييز آثار الأقدام عليها. لا بد أنها سلكت ذلك السبيل. من ثم فقد أخذه جيمي. لكنه حين بلغ الطريق لم يستطع أن يرى أثرا لأي شخص يشبه ولو من بعيد شكل الفتاة التي كان يبحث عنها. فعاد أدراجه إلى العرش ومشى الطريق الذي سلكه، ومن عند أكمة زهور الربيع التقط الأثر واتبعه جنوبا على امتداد الشاطئ حتى فقده بين زهور الربيع ورعي الحمام المتشابكة، ووسط نباتات التين الحامض. وفي الموضع الذي فقده فيه بالضبط اكتشف جيمي السبب الذي جعله يفقده. فقد محاه وطء عشرات الأقدام الصغيرة، آثار أقدام صغيرة مرحة، كلها آثار أقدام أطفال. مضى جيمي مندفعا في الشاطئ، وفجأة وجد موضعا كان فيه أثر القدم الذي كان يبحث عنه واضحا في الرمال بجانب الموقع الذي تنمو فيه زهور رعي الحمام، وكان حوله من جميع النواحي مرة أخرى أسطول آثار أقدام الأطفال الطامسة لأي شيء.
بعد ذلك ذهب جيمي إلى المنزل. حيث فتح البوابة وأغلقها بحرص خلفه. وفي منتصف الطريق وهو صاعد السلم جلس. وللمرة الأولى حمل الزهور التي كانت في يده إلى مجال نظره.
قال جيمي لنفسه: «هل هذا معقول!» وتابع: «هل هذا معقول! كانت قاب قوسين مني، وأنا نائم! لا بد أنني حجر لا بشر.»
جلس يحدق في الزهور الرقيقة بلونها الأرجواني المائل للوردي التي كانت، كعادتها في المساء، متفتحة عن آخرها من حرارة يده وتنشر حوله نفحات غاية في الرقة والخفة من عطرها الفريد. وإذا بجيمي يتطلع نحو البحر.
صفحة غير معروفة