عبير روح وزهرة
بعد بضعة أيام جاءت مارجريت كاميرون إلى جيمي بسترتين فصلتهما من الشاش غير المبيض. شريط عريض يلتف حول صدره ويثبت بأزرار. ويمتد عبر الكتفين زوجان من الأربطة، مريحان عند الجلوس، وملاصقان لجسده كفاية للحفاظ على الضمادات في مكانها عند الحركة. بعد أن ضمد جرحه وارتدى أحد هذه الابتكارات وثبت الأزرار، شعر كأنه حصل على خلاصه للتو. فقد كانت الضمادة أخف بكثير وزنا، وأسهل بكثير في اللبس عما ظل يحمله طوال عامين. وأهم من كل شيء أنها كانت تؤدي غرضها من دون أن تذكره باستمرار، بثقلها والاحتكاك الدائم بكتفيه وتحت ذراعيه، بأنها موجودة.
ظل هو ومارجريت يعملان معا طوال أسبوع، وهو ما أسمياه «تقوية أواصر الصداقة بينهما.» فخصصا أفضل وقت في اليوم للرش. وظلا يعتنيان بالنحل، على قدر معرفة كل منهما. وقد أقدم جيمي على كل شيء بتمهل وسلاسة بقدر الإمكان. فواظب على النظام الغذائي الذي أعداه، وفي الساعة العاشرة من صباح كل يوم كان يرتدي ثوب سباحة سيد النحل، ومزودا بدثار قديم ليغطي قدميه ومناشف لرأسه وذراعيه، ينزل ويسير بشجاعة إلى المحيط الهادئ. بعد المغامرات القليلة الأولى تخلص من الخوف وراح يتوغل حتى تتكسر عليه الأمواج، وقبل أن يمر أسبوع كان قد اكتشف أنه بالاستلقاء على جانبه الأيمن، وضرب الماء بيده اليمنى، واستخدام قدميه يستطيع أن يجرجر ذراعه اليسرى ويسبح قليلا. وقد أسعده هذا الأمر للغاية حتى إن الشعور بالبهجة وحده حسن من دورته الدموية. وحين يتملكه البرد من وخز المياه المالحة الباردة، على بقعة اختارها، تبدأ في أكمة لزهور الربيع الذهبية وتنحدر إلى رمال الشاطئ في مواجهة الجنوب الغربي مباشرة، كان يتمدد بقامته الفارعة على الرمال الساخنة، وقد تخلص من الدثار والمناشف ليشعر بالراحة، ويستغرق في النوم. وحين يستيقظ يجد جسده قد اكتسب الدفء من حرارة الرمال تحته وجف وهو مغطى بالماء المالح.
ثم يعبر البوابة عتيقة الطراز ويصعد ببطء السلم المتعرج المؤدي إلى الباب الخلفي. خلال المرات التي كان يصعد فيها اكتشف أنه أصبح يألف كل زهرة من الزهور النابتة على جانبي المسار. تلك التي لم يكن يعرفها، كانت مارجريت كاميرون تعرفها من سنوات العمل التي أمضتها هي وسيد النحل في حديقتيهما معا. وجد نفسه يتمعن الزهور، ويراقب أي أنواع النحل تذهب أكثر إلى أي أنواع الزهور، وحين اكتشف جيمي أن النحل الألماني الأسود يزور زهرة أبي خنجر أكثر من أي زهرة أخرى، أبدى استهزاءه. وتذكر من أيام دراسته لنباتات الناسترتيوم أوفيسينالي (الاسم العلمي لأسرة هذا النبات). كان ذلك جرجيرا، لكن زهرة أبي خنجر تنتمي إلى الأسرة نفسها. دأب الصبية في الفصول على تسمية زهور أبي خنجر «المسئول عن تهييج الأنف»، ألم يكن من الطبيعي لشيء يحمل اسم الألماني الأسود أن يختار تلك الزهرة لتصبح المفضلة لديه؟ راح ذهنه ينشغل بهذه الطرفة وغيرها.
حين بلغ المنزل ذهب إلى الحمام مباشرة ليستحم، ووضع ضمادات جديدة، وارتدى ملابسه، وحينئذ أحضرت مارجريت غداءه. بعد تناوله تجول في الأنحاء طوال العشرين دقيقة المخصصة لذلك، ثم استلقى في الحال على فراش سيد النحل ونام ساعة أخرى على إيقاع الأمواج المتكسرة. بعد تلك الساعة استيقظ على كوب مترع من عصير البرتقال البارد. وبالمواظبة نفسها تناول عصير الطماطم في الصباح، وبدلا من الشاي أو القهوة، تجرع الحليب مع وجباته. وظل بعد الاستيقاظ من غفوته يعمل في الحديقة بقدر ما استطاع من دون أن يرهق نفسه. ثم ذهب إلى رفوف الكتب، لكن لعزمه الجديد على المقاومة حتى يصبح ذا جدوى في العالم تجاهل مجلدات مغرية من الروايات والتاريخ الطبيعي القديم. إذ استخف بها وراح يكرر عباراتها الثرية من صفحاتها الفريدة وكأنه يخاطبها. «يحصل النحل على صغاره من العدم ويضعهم في الخلايا، هل هذا صحيح؟ ينزل العسل من السماء، أحقا؟ أفضل النحل هو النحل الصغير المستدير المبرقش، صحيح؟»
هكذا هزل جيمي من علماء التاريخ الطبيعي القدامى ثم مضى إلى المعاصرين وجلس يقرأ في كتاب عن القواعد اللازمة للرجال الذين يودون أن يصبحوا مربين للنحل.
كان جيمي قد تصور في قرارة نفسه أن سيد النحل عند رجوعه سيصبح من الوهن في غاية حتى إنه قد يمضي عام قبل أن يصبح قادرا على مواصلة عمله، وخلال ذلك الوقت سيبقى هو في عمله، إذا أراد السيد، وسوف يتعلم كل شيء لا بد من معرفته عن النحل. وكان كلما فكر في الأمر بدا له، نظرا إلى عدم وجود أي غابات في كاليفورنيا كما هو في الشرق، أنه من الأفضل أن يستمتع بالحياة إلى أقصى قدر ممكن وهو يعمل مع النحل كما كان سيستمتع بالعمل مع الأشجار.
بعد عشرة أيام من الالتزام التام بهذا النظام استيقظ جيمي ذات صباح، وبدلا من النهوض في الحال، ظل راقدا بلا حراك ليقيم حاله. مد ساقه اليمنى بعيدا بقدر ما استطاع في الفراش وهز أصابع قدميه. رائع! لم يشعر بأي ألم. وجرب الساق اليسرى بالنتائج نفسها. ثم اختبر الذراع اليمنى ثم اليسرى، وبعدها مط جسده كله وألقى بثقله على مؤخرة رأسه وكعبيه ورفع كتفيه وأنزلهما بهوادة، فأسعدته نتيجة التمرين حتى إنه جربه مرة أخرى. وارتأى أنها ربما ليست فكرة سيئة أن يضع نوعا من أنواع التمرين ويؤديه كل صباح عند استيقاظه.
لذلك من أجل نفسه، وباختياره وحده، بدأ تمرينا يوصي به طبيب في العلوم الصحية شديد المهارة لكل الرجال والنساء ليتمتعوا ببدن قوي. كان في أغلبه عبارة عن تمدد وانكماش في الصباح الأول، لكنه تطور في الأيام التالية إلى تمرين متوازن فيه مط لكل عضلة في جسده وشد لها. وبعده يستلقي ليستريح نحو نصف ساعة، ثم يذهب ليقوم بأعماله اليومية وفي جسده إحساس وفي قلبه وذهنه حماس لم يتوقع قبل بضعة أسابيع قصيرة أن يشعر بهما مرة أخرى. ومن ثم بدأ يدرك أن الحرارة والتوتر العصبي في سبيلهما إلى مغادرة جسده بطريقة ما. كما بدأ يشعر بشبع هادئ في معدته كأن هناك تيارات باردة تجري في أوردته بدلا من الدماء المسممة المؤلمة. ونتيجة لهذا الشعور أصبح يستطيع أن ينجز حجما أكبر بكثير من الأعمال بين النحل ومع الزهور.
وحينئذ أدرك أن أوان حاجته إلى مساعدة يقترب سريعا . فسوف يحتاج إلى مساعدة حين يتطلب الأمر فحص القفائر والتأكد بشكل قاطع من أن كل قفير به ملكة سليمة وسعيدة، وأنه لم يزحف أي مرض إليه. كما أن مسألة جمع العسل صارت وشيكة، وبدا أنه من الوارد وجود عدد كبير جدا من الملكات. ومن ثم فإنه حين ذهب إلى المستشفى في المرة التالية لزيارة سيد النحل سأله أين يستطيع الحصول على مساعدة حين يتطلب الأمر ذلك، فأعطاه سيد النحل عنوان جون كاري، مربي نحل آخر كان قد تبادل معه الخدمات من حين لآخر في أوقات جمع العسل وإبعاد النحل عن الخلية.
صفحة غير معروفة