وعندئذ ترغب الملكة الصغيرة في المواصلة وقتل كل واحدة من اليرقات البيضاء النائمة في سائر المهاد. إنها تريد أن تفعل ذلك في نفس التو واللحظة. إلا أن العاملات والنحل الكشاف والحراس يتقدمون ويقولون: «كلا، لا يمكنك أن تفعلي ذلك. عليك الخروج والعثور على ملك لك ثم العودة مستعدة لأن تصبحي أما للقفير قبل السماح لك بأن تفعلي ذلك.»
من ثم تخلد الملكة الصغيرة إلى الراحة بضعة أيام حتى تصبح على أهبة الاستعداد، وذات يوم والجو صحو ومشمس تماما، في الصباح والندى يكسو الزهور وطيور القنبر تحلق في السماء، في صباح مثل ذلك الذي كتب عنه براونينج، وجعلني سيد النحل أحفظه؛ ذلك الذي يقول فيه: «الله في سمائه، وكل ما في الدنيا بخير»؛ أعتقد أن أمك جعلتك تحفظه أنت الآخر، حسنا، تذهب الملكة الجديدة إلى الباب وتخرج منه بظهرها. تبتعد مسافة صغيرة وتعود إليه ثلاث مرات أو أربع. لقد علمها الله أن تفعل ذلك حتى تتأكد تماما من أنها ستتعرف على بابها حين تعود إلى سكنها من أول رحلة طويلة تقدم عليها على الإطلاق. وحين تتأكد من أنها تعرف المكان الذي تنتمي إليه، حينئذ تبدأ رحلتها ، وقد علمها خالقها الطيران أيضا؛ إذ لا تتسنى لها فرصة استخدام أجنحتها قبل ذلك. لكنها حين تستخدمها تظل تعلو وتبتعد في السماء، حتى إنها تعلو فوق الأشجار. وتحلق أعلى من الطيور. إنها تحلق عاليا جدا حتى إن الرجال الذين ألفوا الكتب لم يستطيعوا قط أن يروا الارتفاع الذي تصل إليه.
وحين تبدأ رحلتها، فإن هناك شيئا ما في جميع أنحاء صف القفائر، الشيء الذي تسميه كتب النحل «روح القفير»، أو الغريزة، أو الطبيعة - لكن سيد النحل يقول إنها مشيئة الخالق أيضا - تخبر كل ذكور النحل أن ثمة ملكة شابة خرجت للبحث عن ملك. وليس بإمكانهم امتطاء جواد أبيض بلون الحليب للبحث عنها؛ فعليهم استخدام أجنحتهم. لكنهم يتمتعون بمظهر بديع. إذ إنهم من النحل الكبير المختال. ويضعون على رءوسهم خوذات مزينة بلآلئ سوداء، وريش طويل. ويرتدون أحزمة مخملية صفراء وعباءات طويلة، ويستهينون بكل من في القفير. حتى إنهم لا يأبهون كثيرا لأمر الملكة، إلى أن يبدءوا في خطب ودها. ويظلون طوال حياتهم عبئا ثقيلا. فلا يعملون البتة. ولا يخرجون أو يبحثون عن أي رحيق. إنما يسيرون إلى الخلايا التي تملؤها العاملات ويأكلون منها كما يحلو لهم. ويخرجون ويتكورون على زهور التيوليب والزنابق، وحيثما يجدون مهدا جميلا من الزهور، استلقوا عليه وناموا في الشمس لساعات. بعد ذلك يعودون ويأكلون المزيد، وإنهم أكسل من أن يعيشوا بالأسلوب الذي يعيش به النحل الآخر، لكن تعلم النحلات العاملات أن القفير لا يمكنه البقاء من دونهم؛ لذلك ينظفن مخلفاتهم. ولا أحد يحبهم على الإطلاق، لكن لا أحد ينبس بكلمة لأنهم جزء من خطة الخالق. ولا بأس أن يحظوا بوقت طيب متى تسنت لهم الفرصة؛ فإنهم لا يعلمون شيئا بتاتا عما سيحيق بهم.
هكذا حين تخرج الملكة الصغيرة، يرغب كل الذكور في التودد إليها، فيأتون في أسراب من جميع القفائر المختلفة ليلاحقوها. ويبسطون أجنحتهم على اتساعها ويطيرون بعزم وسرعة شديدة حتى إنهم ينتفخون تماما ويمتلئون بالهواء أكثر من قبل، ويصير شكلهم مختلفا عما كانوا عليه قبل أن يبدءوا. ولا يبلغ الارتفاع الذي بلغته الملكة إلا الذكر الحسن الماهر القوي. وأخيرا، حين يعلو بعض منهم حتى يكاد يقترب جدا من الجنة، وحدهم تماما في الأفق حيث السماء زرقاء والنهار طيب وكل شيء جميل وحسن للغاية، تقول الملكة من منهم سيصبح الملك. ثم يتزوجان. ويحظيان بشهر عسل قصير، إذ تقول الملكة إن عليها الذهاب إلى القفير مباشرة والبدء في العمل. فلا تنتظر حتى لتودع الملك، وإنما تدفعه دفعة كبيرة، دفعة كبيرة وشديدة للغاية حتى إنها تقضي عليه فيهوي إلى الأرض جثة هامدة. وتعود هي إلى القفير وتدخل من الباب، وتصبح محظوظة إن وصلت إلى القفير ودخلت من الباب دون أن تصيبها الطيور وغيرها من الأشياء. لذلك السبب يوجد يرقات بيضاء أخرى في الانتظار، فإذا لم تعد الملكة الصغيرة، يمكن لواحدة أخرى الاستعداد والخروج. أترى كيف أن كل شيء مجهز من البداية من أجل استمرار الحياة! لهذا فهي مشيئة الخالق؛ لأنها خطة رائعة، وهي أشياء لا يقوى الرجال على فعلها بأي طريقة على الإطلاق. إن الله وحده هو الذي يخطط للنحل حياته.
إذا عادت الملكة إلى القفير ابتهج الكل بشدة لدى دخولها من الباب حتى إنهم يقبلونها ويمشطون شعرها وينظفون أجنحتها ويهيئونها بالكامل على أحسن وجه. حتى إنه لن يخطر لك أن قلوبهم تنطوي على شيء سوى الحب والخير.
أتدري ما الذي تفعله العاملات بعد ذلك؟ لن تخمن أبدا، حتى إن ظللت تخمن أياما؛ لذلك سأضطر إلى إخبارك. كل اليرقات البيضاء اللواتي ظللن يطعمنهن غذاء ملكات النحل، واللواتي ظللن يلقين أفضل رعاية من الممرضات، يلدغن. هل تصدق؟ كما تعلم حين يمكر أحد الرجال ويغدق بالحب على رجل آخر ويجعله يظن أنه صديقه، ثم ينقلب على عقبيه ويستولي على كل أمواله وربما يقتله، يقول الناس عندئذ إن الرجل الطيب «لدغ.» حسنا، إن ما يحدث هنا في قفير النحل هو سبب قولهم ذلك. فكل اليرقات البيضاء التي لاقت محبة شديدة وغذيت بغذاء ملكات النحل، لحظة أن ترجع الملكة الصغيرة منزلها سالمة غانمة ، حينئذ، كل اليرقات البيضاء اللواتي كن سيصبحن ملكات إن تسنت لهن الفرصة، يلدغن حتى الموت، وقد يكون هناك أربعون أو خمسون ألفا منهن، فلهذه الدرجة يريد النحل الاطمئنان إلى أنه سيصبح لديه ملكة. وحين يصبحن جثثا هامدة يحملهن العاملات إلى الخارج ويضعهن جميعا مع النحل الميت.
أما بعد ذلك فإن كل العاملات يجتمعن معا، ثم يقررن لدغ كل ذكر كبير مخادع ظل يتسكع متكاسلا في أنحاء القفير وتخدمه خمس أو ست من النحلات العاملات، وقد طفح الكيل بهن. تستطيع الجلوس عند حدوث ذلك في قفير المراقبة مرتديا النظارات لترى وجوههم، إذ يبدون مبهوتين ومذعورين للغاية فلا تستطيع مقاومة الشعور بالأسف نحوهم. ولا يعلمون ما الذي اقترفوه ولا يعلمون لماذا يحدث لهم ما يحدث، ولا يفهمون لماذا انقلبت العاملات اللواتي كن يخدمنهم؛ إذ يأتي جيش كامل من العاملات، مجنونات جنون الأرنب وصانع القبعات في رواية «أليس في بلاد العجائب»، فيزأرن في وجوههم ويغنين أناشيد الحرب ويطلقن صيحات المعركة. ومن ثم تنزع أجنحة السادة الذكور العجائز وتوخز أعينهم حتى تقتلع من مكانها ويوخزون في كل مكان من جسدهم، ويقتلون على بكرة أبيهم، ويلقون خارج القفير.
لا يتبقى إلا الملكة الشابة ووصيفاتها والعاملات والممرضات اللواتي سيبقين معها. وعند التعرض لأي خطر، فإنهن جميعا يقفن كدرع ويحمين الملكة الشابة. وإذا كان الشتاء قاسيا التففن حولها لتدفئتها، وإذا لم يتوفر طعام كاف جعن هن وأطعمنها. مهما حدث لهن، ترعى كل منهن الملكة، ما دمن على قيد الحياة؛ لأن البيض الذي تضعه هو الذي يصنع جيل النحل الجديد ويحافظ على استمرار حياته في العالم. إذن هناك من يعلم كل نحلة قائلا: «حتى إن كنت ستموتين أنت نفسك، فعليك رعاية مولاتك، حتى لا يختفي النحل عن وجه الأرض كما اختفى كل شيء في زمن الطوفان». ومن يعلمهن ذلك هو الخالق مرة أخرى.»
نظر الكشافة الصغير في عيني جيمي مباشرة. «بدأت الآن تفهم لماذا قال سيد النحل إن الشعر الذي على جسد النحلة هو من صنع الخالق، أليس كذلك؟»
قال جيمي: «بلى، بدأت أفهم. إنه أروع الأشياء التي سمعت بها على الإطلاق في العالم بأسره! استمر واحك لي المزيد. احك لي أصغر التفاصيل التي تعرفها.»
صفحة غير معروفة