قال سيد النحل: «لست بحاجة إلى الشك في إخلاص ذلك العرض أو صدقه». وتابع: «ولست بحاجة إلى الشك في أنه كان سينفذ بشجاعة لو دعت الحاجة إلى ذلك. ولست بحاجة إلى الشك في أنه، من ناحيتي، لم يتبق في العالم بأسره شخص أعزه نصف معزتي لهذا الصديق الصغير. وإن من الأسباب التي أرغب لأجلها في العيش هو أنني قد أحرز تقدما فيما أحاول تعليمه لذلك الصغير بالذات بشأن تربية النحل، وفي الوقت نفسه، الحفاظ على روح أعتقد أنها خالدة. ولن ينجم ضرر عن أي شيء يتعلمه مني مساعدي. بل يساورني شعور بأن الأشياء المؤذية في هذا العالم تتجاوز الذهن ما دام مشغولا بشيء مشروع وبناء. لا تخبر مساعدي أنني لا أستطيع تناول «السجق» أو المياه الغازية بنكهة الفراولة. أخبره أنني ممتن له للغاية على تذكري. بلغه محبتي، وإذا كنت ترى أن حالتي ليست صادمة للغاية، فأحضر معك صديقي الصغير في المرة القادمة.»
قال جيمي: «سيسرني ذلك للغاية.» وتابع: «والآن، هل تود أن تعطيني أي توجيهات قبل أن أرحل؟ فقد طلب مني الدكتور جرايسون أن أبقى بضع دقائق فقط.» «أعتقد أنه لا يوجد شيء سوى أن تستمر على ما أنت عليه. وسيسرني أن تقضي وقت فراغك بين كتب النحل. فسوف تساعدك في مهمتك. وقد تثير اهتمامك لدرجة تحملك على الاستمرار أثناء عجزي، ما دمت متمتعا بالبأس الكافي. يريد جرايسون أن يقابلك في مكتبه هنا في المستشفى قبل أن ترحل، فإذا كنت ذاهبا فافتح ذلك الدرج الذي على اليسار هناك وضع الظرف الموجود بداخله في جيبك؛ من شأن ذلك أن يعطيك ولو بعض المكافأة على راحة البال التي منحتني إياها تجاه منزلي وأملاكي وعملي. أخبر مارجريت أنهم لا يسمحون لي بالكتابة، لكنني أحب الورود التي ترسلها وتشعرني رسائلها بأنها موجودة بجانبي. أخبرها أنني أرجو أن تستمر في تدليل رجل عجوز مثلي إلى أن ... لنقل إلى أن أبلغ الديار مرة أخرى، بما أنه من المحتمل أن يكون لدي فرصة. والآن أقول لك الوداع. أريد أن تعلم أنني أفكر فيك تفكيرا لا يكاد ينقطع في ساعات صحوي. احرص على مقابلة جرايسون. فإنه في غاية المهارة. ربما يستطيع أن يصف لك شيئا يجعلك أقل شحوبا ويساعدك على استجماع قوتك. والآن إلى اللقاء.»
قال جيمي: «إلى اللقاء. كن مطمئنا. فإنه بإمكاننا فيما بيننا، مارجريت كاميرون، والكشافة الصغير، وأنا، أن نتدبر أمر النحل. ولا توجد مشكلة البتة بشأن الزهور والأشجار. لقد تمكنت من ذلك النظام بالفعل.»
بعد ذلك نزل جيمي ووجد مكتب الدكتور جرايسون، وبعد نصف ساعة عاد إلى المنزل ومعه كمية كبيرة من الضمادات المعقمة ومن دون قطرة دواء واحدة. فقد نصح باتباع نزعاته. فإذا تاق جسده للماء المالح البارد، فلينغمس فيه. وإذا كانت رغبته الاستلقاء على الرمال في الشمس، فليقدم على ذلك.
قال الطبيب: «حيث إن عاما من أفضل الرعاية التي استطاعوا أن يوفروها لك في أرقى مستشفياتنا الحكومية لم تخفف من متاعبك، فلتجرب فعل ما تخبرك الطبيعة أنها تريد منك فعله بالضبط، ولتر ما النتائج التي ستترتب على ذلك. فأنا أعتقد أن الماء المالح وأشعة الشمس والهواء النقي هم أفضل أطباء في العالم كله، على أي حال.»
في المكتب جلس جيمي على مقعد ليستريح بضع دقائق ويقرر ما سيفعله بعد ذلك. كان ممتنا على الضمادات؛ لأنه لم يكن يعلم بالضبط ما هي أفضل الأشياء ليستخدمها. لقد كان الأطباء والممرضات يفعلون به ما يريدون، لكنه لم يعلم الكثير عما كانوا يفعلونه. وهو الآن سيصبح مطمئنا أن ما يستخدمه لن يسبب ضررا على الأقل.
جعل يفكر في بعض اللوازم التي يحتاج إليها، وتساءل إن كان الظرف يحتوي على نقود كافية لتعويض المبلغ الذي اقترضه من أجل الخاتم وإذن الزواج، ومن ثم فتحه. وعندئذ جلس مذهولا واجما. ليس من الحكمة أن يعود أدراجه ويدخل حجرة رجل عليل لإعلان اعتراضه. أخذ يحصي الأيام التي قضاها في العمل في الحديقة. أدرك أنه قد حصل على مسكن ومأكل ومشرب وحق استخدام ما احتاج إليه من الملابس، لكنه لم يكن صحيحا ولا منطقيا على الإطلاق أن يتلقى مبلغا مثل ذلك الذي احتواه الظرف مقابل ما فعله. ظل جالسا هناك يتساءل ما إن كان الرجال في جميع أنحاء البلد يتقاضون مبلغا مثل ذلك مقابل عمل يومي عادي. تحسس النقود بين يديه. وبسطها أمام عينيه. وراح يتفحصها بإمعان. بإمكانه أن يعوض عما اقترضه ويظل بإمكانه أن ينفق المبلغ نفسه مرتين أو ثلاث مرات أخرى، مقابل بضعة أيام فقط من المكوث في حديقة النحل.
كان ذلك عمليا ما يستحقه مقابل ما قدمه من خدمات. لقد حافظ على المنزل مفتوحا. وأعطى انطباعا بوجود شخص يؤدي العمل. وضع المال في جيبه، في جيب يستطيع أن يدس فيه يده ويتحسسها. وغادر المستشفى وخرج إلى الشارع، وهو ما زال يتلمس تلك النقود. ما دام باستطاعة رجل مريض أن يكسب كل ذلك بمجرد «البقاء مكانه»، كما عبر الكشافة الصغير عن الأمر، فما ذلك الذي لا يقوى على فعله وهو معافى؟ قال الدكتور جرايسون إن الماء المالح وأشعة الشمس والهواء النقي قد يصبحون أفضل أطباء. حسنا، وهو لديه المحيط الهادئ مملوء بالماء المالح. ولديه السماء بأسرها تملؤها أشعة الشمس. ولديه الهواء، بلا غبار مطلقا، نقي، رقيق وهو يهب من المحيط، وقد عبر مسافة طويلة من الصين. تصور جيمي أنه حتى إن كان ثمة غبار في الهواء الذي يتنفسه، فهو غبار النجوم.
هكذا شد قامته وتحسس النقود بيد واحدة، وبالأخرى تحسس صدره. لمسه بتأن، متفحصا إياه بقدر ما استطاع خلال ملابسه، فاكتشف أنه منذ تعافيه من الإرهاق الذي لقيه في تجواله لم يعد يؤلمه بشدة كما كان. ما دام باستطاعته أن يكسب مالا بذلك القدر، وما دام لديه حديقة مدهشة ليعمل فيها، وما دام استطاع أن يكسب ثقة سيد النحل، وما دام يستطيع في كل يوم أن يكتسب صداقات مفيدة، وما دام لديه زوجة، وما دام سيولد طفل يحمل اسمه، فما فائدة الاستسلام للموت؟ قد يكون في العالم شيء جيد يستطيع أن يفعله . ومهما يكن من أمر فباستطاعته أن يجد قدرا غير محدود من التسلية من العمل في حديقة النحل واللهو مع الكشافة الصغير.
هكذا ذهب جيمي إلى عدة متاجر، واشترى بعض الأشياء التي كان بحاجة إليها مطمئنا اطمئنان رجل لديه الثمن في جيبه. ثم ذهب إلى المنزل وقد تبدل لأول مرة منذ عامين ما كان يشغل باله؛ فقد أصبح يفكر في الحياة بدلا من الموت.
صفحة غير معروفة