شبك يديه ثم فصلهما وأرسلهما بعيدا ملوحا بهما. «حين عدت إلى سيد النحل، كنت أرتجف كأنما أصابتني قشعريرة، وأعتقد أن الماء المالح الذي سال منهمرا على وجهي كان كافيا لتغترف منه ملء ملعقة كبيرة من الملح. يقول سيد النحل إن كل دلو ماء تأخذه من المحيط به ثلاثة ونصف في المائة من الملح، لكنني أراهن بربع دولار على أن الملح الذي سال من دموعي كان أكثر من ذلك. فحتى لو أنني مت لظلت دموعي تنهمر. قال سيد النحل إنها لسعات سيئة، وأمسك بي بإحكام وراح يفرك الإبر؛ لأن هذا ما يجب فعله؛ فإن شددتها فستزيد الطين بلة. ثم فتح الخرطوم على أرض طينية وخلط لبخة باردة من الوحل وبسطها على اللسعات وقال إنه لا بد أن يركل عقابا له على السماح لي بالذهاب وسط النحل بينما تفوح مني رائحة الكلاب والخيل.
فمسحت عيني وقلت إنني أعتقد أن تلك هي المشكلة. ما كان علي القيام به هو ارتداء معطف النحل القديم الخاص به ودعك رأسي ببعض الزنابق وسروالي القصير ببعض القرنفل. هكذا ذهبت إلى الرواق الخلفي وأخذت معطفه، وحين شرعت أرتديه سألني ماذا أنا فاعل. فأخبرته أنني سأجعل رائحتي مناسبة و«أحاول، أحاول مرة أخرى». فجلس هناك وأخذ ينظر إلي، فلم أر قط عينيه وقد اتسعت حدقتهما وازدادتا سوادا مثل تلك المرة، ولم أر قط وجهه وقد زاد شحوبا عن شحوبه حين يبلغ به الألم مداه، ثم همس بصوت منخفض للغاية، حتى إنني استطعت بصعوبة سماعه، وهو يقول: «هلا أقسمت بالرب أنك لن تفعل ذلك، أيها الكشافة الصغير؟»
فقلت: «لا دخل للرب بهذا الأمر. إن المسألة بيني وبينك، وإنني ذاهب!»
وهكذا عقدت أزرار المعطف وذهبت إلى حوض القرنفل وتقلبت فيه. أعتقد أنني كنت أكثر غلظة مع القرنفل مما أراد السيد، لكنك إن حدث ولسعتك نحلة ألمانية سوداء فستدرك لماذا كنت متلهفا للاستزادة من القرنفل. ثم سحقت أطيب زنبقة استطعت العثور عليها وفركت بها شعري كله. ثم مضيت في الممشى الشرقي. خطر لي أن أحاول مع النحل الإيطالي أولا. فهو أكثر لطفا بكثير من الألماني. ورغم أنني لا أجيد التصفير، فقد صفرت متغنيا بأغنية «هايلاند ماري» بأفضل ما استطعت ومشيت، برفق وخفة، ولست على يقين لكن أعتقد أنني حملت في يدي آخر زنبقة، والتزمت الهدوء - فعليك بالتزام الهدوء بطبيعة الحال عند الاقتراب من النحل، فلا يجوز الاضطراب، لكنني لم أكن أسير ببطء شديد على نحو ملحوظ - توقفت عند كل قفير من قفائر النحل الإيطالي فلم يفعل بي أي شيء. لقد كان السيد محقا. حيث تلقيت عقابي لأن رائحتي كانت مزعجة. ومن ثم فركت الزنبقة قليلا حين توجهت إلى النحل الألماني الأسود، وذهبت ووقفت أمامه وعددت حتى عشرة. ثم تحديته أكثر أن يأتي ويلسعني. فهاج قليلا نوعا ما واقتربت اثنتان منه بعض الشيء، لكن حين وجدتا رائحة الزهور قوية، رجعتا مرة أخرى. لقد واجهته بجسارة، على أي حال. وحين عدت إلى سيد النحل، رفعني وضمني بين ذراعيه وقال إنه تمنى من الله أن يعيش حتى يشهد اليوم الذي تصبح فيه صغيرته ماري بذلك الإقدام، وضمني بشدة حتى كاد يحطم عظامي جميعا، وقبلني أول قبلة أحصل عليها منه على الإطلاق. وهو لم يقبلني سوى بضع مرات بعد ذلك. إنه ليس كثير التقبيل، صدقني! وقد قال إنني من الممكن أن أصبح مساعده وأعاونه في رعاية النحل. دعني أخبرك بشيء، إنك ستنهض وستؤدي عملا مفيدا، وتشحذ ذهنك لأقصى درجة، قبل أن يعود سيد النحل! إن معطفه معلق في الرواق الخلفي وتوجد هنا في الحديقة زهور كثيرة. متى أردت أن تعرف شعور النحل نحوك، فبوسعك أن تقدم على الأمر في الحال، رغم ما يشمله الأمر من ضريبة المخاطرة. لكن، مهلا، دعني أخبرك بشيء! قبل أن تقترب من خلايا النحل الألماني الأسود، اكتسب رائحة مناسبة!» «لكن كيف أكتسب رائحة مناسبة؟» تساءل جيمي. «حسنا، سوف أريك المعطف المناسب، من ناحية. ضعه عليك ثم اذهب لتدس رأسك وسط زهور القرنفل وافرك نفسك بها كما فعلت، ثم خذ واحدة من زنابق مادونا واسحقها وافرك يديك بها، وربما من الأفضل أن تذهب بالقرب من صنبور المياه حيث ستجد مساحة صغيرة من الأرض رخوة كالإسفنج واقتلع حفنة من النعناع وافرك بها سروالك كلية. ومهما فعلت فلا تضعف! ومن الأفضل أن تصفر لحنا مناسبا. هل تستطيع أن تصفر لحن «هايلاند ماري»، ببطء ورقة؟ إنه أحب الألحان للنحل. كان اسمها ماري. إذا استطعت أن تترنم بها بعذوبة ورقة حقيقية وبحب جارف، والكثير من الملاطفة، والكثير من الشجن، إذا توصلت للطريقة الصحيحة بالضبط - إنك في نفس طوله تقريبا - فمن الجائز ألا يلاحظ النحل الفرق. أجل، أظن أنه لن يلاحظ. ربما لم تسمع من قبل عن عيون كالتي لدى النحل. فالنحلة العاملة التي تلاحقك لديها ستة آلاف عين في كل جانب من رأسها، أما الذكر - من أجل ملاحقة الملكة كما أخبرتك، حين تطير بعيدا حتى تكاد تبلغ عنان السماء، أعلى كثيرا من الطيور وكل شيء - فلدى الذكر ثلاثة عشر ألف عين في كل جانب من رأسه. لذلك من الأفضل أن تصدق، أنه في حال هاج أحدهم فوقك، فسوف يرى أن رأسك ليس أبيض. كل النحل يترك رأس سيد النحل الأبيض. فهو دائما حاسر الرأس. وكان النحل يترك لحيته وعينيه الواسعتين الداكنتين دون أن يصيبها. أليس رائعا؟» «نعم، تولد لدي هذا الانطباع، في الدقائق المعدودة التي رأيته خلالها ومن منزله ومكتبته ومهنته، أجل، أعتقد أنه رائع حقا.»
قال الصغير وهو يلوح لأسفل آتيا بالحركة التي بدأ جيمي يعتادها: «إنه بحق فريد من نوعه.»
ثم سأل على نحو مفاجئ: «هل كان مريضا مرضا شديدا؟»
نظر جيمي إلى العينين المتسعتين في استيعاب أمامه، ولم يخطر له الكذب أو المراوغة.
إذ أجاب قائلا: «أجل.» وأضاف: «لقد كان أكثر الرجال الذين رأيتهم إعياء على الإطلاق، وقد رأيت الكثير من المرضى!»
قال الشخص الصغير: «إنني أدرى الناس بحاله.» وتابع: «فقد ساعدته على عبور الممشى الخلفي وصولا إلى الأريكة وجئته بالأمونيا عدة مرات وأنا أظن أنني لن أتمكن من إنقاذه مطلقا. لقد رأيته يتألم حتى يتصبب عرقا، ويتساقط العرق من طرف أنفه، قطرة قطرة، ببطء، فيسقط على مقدمة قميصه نقطة نقطة! ويمكنني إخبار الجميع أن حالته كانت في غاية السوء! وإذا كان متوعكا إلى تلك الدرجة مرة أخرى، فربما من الأفضل له أن يمضي قدما ويموت.»
إثر النبرة غير المبالية التي نطق بها الاقتراح، تراجع جيمي في مقعده وحدق بإمعان في الوجه الخالي من التعبير للشخص الصغير الواقف أمامه. كان لديه انطباع أن هذا الطفل يعشق سيد النحل. أما في تلك اللحظة فقد شعر أنه يواجه وثنيا صغيرا لا يعشق أي شيء ولا يدرك ولو بقدر معقول ما قد تعنيه كلمة من الكلمات. لكنه كان يدرك إلى حد كبير ما قد تعنيه الكلمة فيما يخص التعليمات مثل طريقة تصفير أغنية «هايلاند ماري»؛ لذلك نظر جيمي بثبات إلى الكشافة الصغير، وقد ضيق عينيه، ثم قال مترددا: «كنت أعتقد أنك تحبه.» «أحبه؟» قال فتى الكشافة الصغير. واستأنف: «حسنا، فلتعرني انتباهك!»
صفحة غير معروفة